تنفس كثيرون الصعداء مع إعلان منظمة الصحة العالمية عن قرب احتمال توافر تطعيم فعال ضد انفلونزا الخنازير للاستخدام العام، بحلول منتصف أو نهاية الشهر المقبل. ويأتي هذا الإعلان بناءً على أن العديد من الشركات المصنعة للتطعيم، قد تمكّنت بالفعل من إنتاج الدفعات الأولية من التطعيم ضد فيروس (H1N1)، كما بدأ كذلك العديد من التجارب السريرية على فعالية وكفاءة التطعيم في العديد من الدول، مثل الصين وأستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا. وتقود هذه الجهود -على الأقل في بريطانيا- شركتان رئيسيتان من عمالقة مصنعي الدواء، هما شركة جلاكسو- سميث- كلين (GlaxoSmithKline)، وشركة باكستر (Baxter) التي ستنتج تطعيماً تحت الاسم التجاري سلفابان (Celvapan). ويعزى هذا النجاح المهم بعد أشهر قليلة من ظهور فيروس انفلونزا الخنازير، إلى اعتماد أسلوب جديد في التصنيع المعملي، يعتمد على مزارع الخلايا، بدلاً من الأسلوب التقليدي – والأبطأ- المعتمد على البيض في زراعة الفيروس. ولكن النجاح، والسرعة اللذين تحقق بهما، أثارا المخاوف لدى كثيرين من مدى سلامة هذا التطعيم، وأمن استخدامه خصوصاً بين الأطفال. وتعود هذه المخاوف إلى ما حدث عام 1976، عندما ظهر فيروس انفلونزا الخنازير بين مجموعة من المتدربين العسكريين في إحدى القواعد الأميركية (Fort Dix). وأدى الهلع والهستيريا اللذان صاحبا ظهور هذا الفيروس قبل أكثر من ثلاثة عقود، إلى تطوير تطعيم بسرعة كبيرة، والبدء في برنامج تطعيم قومي على الفور، شمل 45 مليون شخص داخل الولايات المتحدة وحدها. والمفارقة هنا أن الوباء الذي توقعه الأطباء والعلماء حينها لم يقع أبداً، وفي النهاية أدى الفيروس إلى وفاة شخص واحد، بينما تسبب التطعيم الذي طور على عجل في وفاة 25 شخصاً. وهذا العدد الهائل من الوفيات -مقارنة بالوفيات التي نتجت مباشرة عن الفيروس- سببه حالة مرَضية نادرة الحدوث، تعرف بمنظومة جيويان- باريه (Guillain-Barré syndrome). وباختصار، تعتبر هذه المنظومة من اختلالات المناعة الذاتية، حيث يهاجم جهاز المناعة الأعصاب الطرفية، مما يؤدي إلى تحللها وشلل الشخص المصاب، وأحياناً وفاته نتيجة المضاعفات الشديدة التي تصيب الرئتين. ويعتقد العلماء أن هذه الحالة تنتج من جراء لبس يقع فيه جهاز المناعة بين الجرثومة الموجودة في التطعيم، وبين مكونات الأعصاب الطرفية. وما يحدث هو أن الأجسام المضادة التي يكونها جهاز المناعة بعد التطعيم، تهاجم كلاً من الفيروس، والأعصاب الطرفية أيضاً، مما يؤدي إلى تلفها ودخول المريض في مضاعفات خطيرة، وربما حتى الغيبوبة والوفاة. والغريب أن هذه الواقعة لم تتكرر مع بقية تطعيمات الانفلونزا، التي يتم تطويرها سنوياً حسب نوع الفيروس الذي يظهر كل عام، أو حتى مع مئات الملايين من التطعيمات الأخرى التي تعطى بشكل روتيني لجميع الأطفال. ولذا تظل واقعة "فورت دكس" من أكبر الألغاز في التاريخ الطبي الحديث، التي مازال الأطباء والعلماء عاجزين عن إيجاد تفسير منطقي لها. وإن كان البعض يطرح نظرية مفادها أن تطعيم عام 1976، كان ملوثاً بنوع من البكتيريا Campylobacter jejuni، معروف عنها تسببها مرات عديدة في الحالة سابقة الذكر. وهو ما دفع مديرة أبحاث التطعيمات في منظمة الصحة العالمية، وضمن جهود المنظمة لطمأنة المجتمع الدولي، لتأكيد أن تكنولوجيا التطعيمات المستخدمة حالياً تتمتع بمعايير جودة، لضمان الأمن والسلامة، لم تكن متوافرة قبل بضعة عقود. ولكن في ضوء واقع أن الفئات التي ستحتل رأس قائمة الأولويات مع بداية التطعيم الجديد، هي الحوامل وكبار السن والأطفال، وفي ظل غياب بيانات دقيقة عن الآثار الجانبية للتطعيم على هذه الفئات بالتحديد، يصبح من الصعب تجاهل هذه المخاوف تماماً، خصوصاً أن جميع الحكومات والدول تخطط حالياً لبرامج تطعيم واسعة النطاق تغطي جزءاً كبيراً من السكان، إن أمكن، وفي أسرع وقت ممكن. فعلى رغم تراجع مساحات التغطية المخصصة في وسائل الإعلام لانفلونزا الخنازير في الفترة الأخيرة، إلا أن الفيروس مازال ينتشر انتشار النار في الهشيم، خصوصاً في الأيام والأسابيع الأخيرة. ففي الأسبوع الماضي بالتحديد، شهدت الأرجنتين زيادة في عدد الإصابات بنسبة 60 في المئة، والصين 46 في المئة، وتايلاند 30 في المئة، والبرازيل 25 في المئة، وأستراليا 25 في المئة. وبالنظر إلى أن عدد الحالات المسجلة حالياً تخطى المائتي ألف، والوفيات تخطت الألف بالمئات، لا يعتقد أن الجهات الصحية حول العالم ستتاح لها رفاهية اختيار أن تستخدم أو لا تستخدم التطعيم الجديد. فالتوقعات تشير إلى أن أكثر من ملياري شخص سيصابون في النهاية بالفيروس، وبناء على أن نسبة الوفيات الحالية تتخطى 0.6 في المئة من الإصابات، فربما يحصد الفيروس حياة أكثر من اثني عشر مليون شخص، وهو رقم سيجعل الجميع يهرعون إلى استخدام التطعيم الجديد، متجاهلين مدى أمنه وسلامته. د. أكمل عبد الحكيم