ليس ثمة قصد برسم تقابلية صارمة لها انعكاسات جغرافية وتتركب على الوضع السياسي الانقسامي الحالي في فلسطين. وبمعنى أكثر وضوحاً لا يقصد العنوان القول إن الاستخدام الترميزي للمسجد يُقصد به قطاع غزة تحت سيطرة "حماس"، وأن الاستخدام الترميزي للأمن يُقصد به الضفة الغربية تحت سيطرة "فتح". ذلك أننا لو اعتمدنا هذا التقسيم الابتساري لتورطنا في تبسيطية مضللة، فمدلولات كل من الرمزين توجد جنباً إلى جنب في كل من الجغرافيتين. وما يُقصد برمزي "المسجد" و"المخفر" غلبة مفاهيم الأمن والدين في التحكم في خيارات النخب المسيطرة، وأثرها على توجهات واعتبارات الشرائح الشعبية الأوسع، بصيغ ودرجات مختلفة. وهذه الغلبة لتلك المفاهيم تتجاوز المكان، حيث إن وطأة الأمن والدين وضغوطها على الفضاء العام موجودة في الضفة الغربية وفي قطاع غزة على حد سواء (كما هي الحالة في معظم الفضاء العربي الراهن المؤسف). وإضافة إلى ذلك، وهو ما يميز الحالة الفلسطينية عن شقيقاتها العربيات، هو السيطرة الاحتلالية الإسرائيلية وتحكمها في عموميات وجزئيات الفضاء والحياة الفلسطينية. وأيّاً ما كانت سيطرة المسجد أو سيطرة المخفر الفلسطينيين على الفلسطينيين، فإن كليهما خاضع لسيطرة فوقية عليا من قبل الاحتلال الإسرائيلي. وتتحرك آليات الفرض الديني وتتوسع باتجاه الفضاء المجتمعي في الوقت ذاته الذي تتواصل فيه آليات فرض الاحتلال وسيطرته. وتتحرك آليات الفرض الأمني وتتغول باتجاه الفضاء المجتمعي، في الوقت ذاته الذي تتواصل فيه آليات فرض الاحتلال وسيطرته. وعلى ذلك، فإن المقاربة لفهم تأثير وآليات السيطرات الثلاث هذه تبتعد من الدقة والواقع إن لم يتم الإبقاء على منظور كلياني لها، يراها كمصفوفات سيطرة تنتظمها تراتبية واضحة. وبالتالي يكون العنوان الحقيقي والضمني لهذه المقاربة: فلسطين تحت الاحتلال بين المخفر والمسجد. وأخذاً لما ذكر أعلاه من سياقات في الاعتبار، وهي سياقات تنطبق على حالات عربية وعلى الحالة الفلسطينية أيضاً، فإن هناك خصوصيات تمتاز بها الحالة الفلسطينية تُضاف إلى ما سبق وأشير إليه. وهي خصوصيات تعقّد من مفهوم الأمن وتفترض وجود عقيدة أمن فلسطينية مبتكرة تواجه في تقديري ثلاثة تحديات/ تناقضات أساسية. التحدي الأول متعلق بصعوبة، حتى لا نقول استحالة، صياغة عقيدة أمن وطني غايتها حفظ أمن المواطن والوطن الفلسطيني في ظل سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على مفاصل الحياة الفلسطينية. وكما هو الوضع في الحالات العربية، حيث يتداخل مفهوم الأمن الوطني مع مصالح الدفاع عن النخب الحاكمة، أو الحزب الحاكم، فإن هذا ينطبق في الحالة الفلسطينية سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة، حيث إن مفهوم الأمن الوطني يتداخل بعضوية مدمرة مع الدفاع عن مصالح حركة "فتح" هنا وحركة "حماس" هناك. وإضافة إلى التذويب المدمر لمفهوم الأمن الوطني في الحالتين، فإن كلتيهما تفشلان في مواجهة التحدي الأمني الرئيسي والمتعلق باستمرار الاحتلال الإسرائيلي وتهديده المتواصل واللحظي والمزاجي لأمن الوطن والمواطن الفلسطيني. والتحدي الثاني الذي يواجه الحالة الفلسطينية متعلق، في الوضع الراهن، بصوغ عقيدة أمن فلسطيني تضمن وتحافظ على حق المقاومة بكل وسائله. وهذا يرتكز على الوضعية القانونية للأراضي الفلسطينية التي ما تزال أراضي محتلة من قبل قوة احتلالية أجنبية، ومن حق الشعب الواقع تحت الاحتلال ممارسة المقاومة بأشكالها المختلفة. ولكن هذا الفهم النظري يواجه الآن مصاعب كبيرة عند محاولة مصالحته مع الواقع على الأرض، سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة. ففي كلتا الحالتين يرتكز مفهوم الأمن، أياً كان تعريفه، على حصرية امتلاك وسائل العنف وحصرية استخدامها. بمعنى أنه لا يجوز لأي جهة أو تنظيم امتلاك أو استخدام السلاح حتى لممارسة المقاومة؛ لأن الاستخدام حق حصري للسلطة القائمة. والتحدي الثالث متعلق بوقف تغول الأجهزة الأمنية في الجغرافيتين على حريات الناس، وعدم تطور نموذج فلسطيني للدولة البوليسية الذي رأيناه بأسى وقلق عميق في كثير من الحالات العربية. وهناك مؤشرات خطيرة إن لم نقل مرعبة تدلل على أن التجربة الفلسطينية، وعلى رغم أنها لا تصل إلى مستوى الدولة، وتفتقد السيادة، قد تفشل في تقديم نموذج جديد مبتكر لا يستنسخ التجارب العربية والعالمثالثية. وكثير من المقولات الأمنية المؤسسة للتجربة الفلسطينية تقول إننا كفلسطينيين لسنا استثناءً، ولم نأتِ من السويد ولا ينبغي محاسبتنا بمعايير قاسية في تقييم التجربة الأمنية لا تطبق على سوانا من "الأشقاء العرب". وفضلًا عن الترهل الاستشراقي في مثل هذه الادعاءات، فإنها في الحالة الفلسطينية تمثل هروباً من تقديم نموذج يبني على ما كان يُقال دوماً عن تقدم الفلسطينيين وتعلمهم وتثقفهم المميز وعمق تجربتهم. ولكن على العموم، يبقى من المهم الإقرار بأن إيجاد التوازن بين تحقيق الأمن واحترام الحريات العامة وعدم انتهاك حقوق الإنسان هو الاختبار الدقيق الذي تفشل فيه معظم الدول الاستبدادية. ففي معظمها ينحاز النظام الحاكم وأجهزته الأمنية إلى تحقيق الأمن وفرضه، وإيلاء أهمية أقل لضحاياه من أبرياء وأفراد انتهكت حقوقهم. وحتى هذه اللحظة لا نستطيع القول إن هناك انفلاتاً من مسار التجارب العربية في هذا الموضوع. والضحية الأهم هنا هي الغالبية الصامتة، أو الشعب. فعندما تشتد القبضة الأمنية ويزداد بطشها يتم تحييد الشعب وتحويله إلى جموع مسالمة وخائفة. وفي حالة كون ذلك الشعب واقعاً تحت الاحتلال، فإن منعكسات ذلك خطيرة وتتضاعف، إذ إن مفاعيل المقاومة حتى بأشكالها السلمية يتم تنفسيها والقضاء عليها بشكل مقصود أو غير مقصود -وهذا موجود عملياً في الضفة الغربية وقطاع غزة على حد سواء وإن من خلال مقاربات مختلفة في المنطلق، متفقة في النتيجة. وإذا تمعنا في قراءة خطاب الجنرال "كيث دايتون" في شهر مايو الماضي في "معهد واشنطن" وتأكيده على ضرورة بروز الفلسطيني الجديد، يمكن أن نلحظ أن السمة الأساسية لهذا الفلسطيني الذي يريد "دايتون" إنتاجه أمنياً هو الفاعلية المهنية والاقتصادية، لكن المضبوطة بمناخ الخوف الأمني والسلبية المقاومية. والراهن أن التحديات الثلاثة الكبيرة التي تواجه أي منظور فلسطيني للأمن الوطني تفاقم من الضغوط على الفرد الفلسطيني الذي يُصاب بالدوران نتيجة الحيرة وفقدان البوصلة عندما تحاصره تلك التحديات ويشعر بوطأتها مباشرة. ولكن إضافة إليها جميعاً، يأتي تحدٍّ رابع يزيد من حدة الدوران والحيرة، وهذه المرة يأتي من منظور تحقيق "الأمن الاجتماعي" أو "حماية الفضيلة" -أو تحديات الأسلمة خاصة التي نراها الآن في قطاع غزة. ولئن كانت تحديات "الأسلمة"، في قطاع غزة قد تمت تغطيتها بتركيز من قبل الإعلام وكتاب كثيرين بمن فيهم كاتب هذه السطور (في مقالة الأسبوع الفائت بعنوان: "حماس بين طالبان وأردوغان")، فإن ذلك لا يعني أن الضفة الغربية تفلت تماماً من مثل تلك التحديات وضغوطها. ويقع الفرد الفلسطيني كما هو الفرد العربي في كل البلدان العربية بين سندان الأمن ومطرقة المسجد، بمعناهما الترميزي، ويؤدي ذلك إلى الهروب من السياسة والحياة العامة واللجوء إلى اللامبالاة امتثالاً للخوف والخشية، أو الهروب كلية من البلد إن كان ذلك قيد الاستطاعة.