كان بمقدور النيجيري "محمد يوسف" وأنصاره ممن طفوا مؤخراً على سطح الأحداث تحت اسم "طالبان نيجيريا"، أن يستعيروا من آسيا تجارب جميلة في كيفية بناء دولة الرخاء والازدهار والعلم والعدالة والتنمية المستدامة، خصوصاً أن مثل هذه التجارب متاحة ومعروفة، ولا يمانع أصحابها في تبني الآخر لها ونسخها في أماكن أخرى، ثم خصوصاً أن "يوسف" إنسان عرف عنه حب المعرفة والإطلاع وإجادة الإنجليزية، معطوفاً على شغفه بكل ما هو حديث وفاره ابتداء من السكن الوثير، وانتهاء بآخر موديلات المركبات الغربية التي ساعده ثراء أسرته على امتلاكها. لكن هؤلاء فضلوا أن ينجذبوا إلى أسوأ ما في آسيا من نماذج، وهو النموذج "الطالباني الأسود"، الذي لم يعط الأفغان سوى الذل والقهر والحرمان من أبسط الحقوق الآدمية، دعك مما فرضه عليهم بسياساته الحمقاء المتطرفة من حروب ومسلسلات دموية؛ أحرقت الأخضر واليابس، وهجرت الناس وزرعت الخوف والهلع في نفوس الأطفال البريئة. وبهذا، فهم تجنبوا نماذج تنموية آسيوية ناجحة كالنماذج الكورية والسنغافورية، والماليزية، والتايلاندية، والصينية، التي كان بالإمكان استنساخها بنجاح في دولة أفريقية كنيجيريا الكبيرة لجهة المساحة 924 ألف كيلومتر مربع، ولجهة عدد السكان 150 مليون نسمة، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، ولجهة الموارد الأولية: نفط وغاز وذهب وحديد ورصاص وزنك وفح)، وراحوا – بدلًا من ذلك - يفتشون في مزبلة "طالبان" عن الخرافة والدجل والغلو والكراهية والحقد على الآخر، وكل ما صنعه هذا الآخر للبشرية من منجزات. بل كان اعتمادهم الخطاب الذي تعتمده حركة "طالبان" من خلال إطلاق اسم "بوكو حرام" على جماعتهم، ومعناه المجازي تحريم التدريس والتثقيف بالطرق الغربية الحديثة، دليلاً على عقل متشدد يعيش في خارج مدارات الكون. لم يعثر على دليل مادي على ارتباط "بوكو حرام" بحركة "طالبان" الأفغانية تنظيمياً أو مالياً، غير أن ارتباط المجموعتين أيديولوجياً لا يحتاج إلى برهان. فإضافة إلى تبني "بوكو حرام" للخطاب الإسلامي الراديكالي نفسه للطالبانيين الذين دمروا التعليم وحظروا على الفتيات ارتياد المدارس تحت طائلة العقوبة البدني، فإن "بوكو حرام" – مثل حركة طالبان - تنتصر لتنظيم "القاعدة" الإجرامي بدليل وجود شعارات بذلك المعنى على جدران معاقلها في مدينة "مايدوغوري" الشمالية. إلى ذلك، فإن أهداف "بوكو حرام" هي نفسها أهداف "طالبان"، وتتمثل في قلب نظام الحكم وإقامة نظام يستمد قوانينه من الشريعة، وإلغاء أشكال نظام التعليم الغربي الذي قال عنه يوسف إنه لا يؤمن بالتوحيد، مضيفاً أن علماء مسلمين بارزين أخبروه بضرورة تغيير نظام التعليم النيجيري، ليس فقط لأنه يدرس نظرية دارون في النشوء والارتقاء، وإنما أيضاً لأنه يشتمل على خليط من المعتقدات النقيضة لمتطلبات التعليم الإسلامي الصحيح. وكي يؤكد يوسف صحة كلامه السابق، فإنه بادر إلى التصريح بشيء عكس مدى ضحالة علمه الديني، وذلك حينما قال إن منهاج التعليم النيجيري يقول إن المطر يتكون نتيجة لتكثف بخار الماء بفعل الشمس، فيما منهاج التعليم الإسلامي يقول إن الله هو خالق المطر!ّ والذي يطلع اليوم على ما ينشر في المواقع الإلكترونية النيجيرية، سيجد مواقف متباينة حيال "بوكو حرام" وما قامت به. ففريق أخذ على "يوسف" وجماعته جهلهم التام بالإسلام، الذي يدعو معتنقيه إلى "طلب العلم ولو في الصين"، بمعنى الاستفادة من أي علم أو منجز بشري نافع دون السؤال عن مصدره. وفريق رأى أن من حق الدولة أن تستخدم القوة مع كل من يستخدم السلاح في إرهاب الناس وفرض معتقداته عليهم تحت ستار الدين. وفريق طرح سؤالًا في غاية الأهمية حول مصادر الأسلحة التي استخدمتها "بوكو حرام" في هجماتها، وعما إذا كانت تلك الأسلحة قد هُربت من مستودعات الجيش أو وصلت من الخارج عبر الحدود بمساعدة عسكر يحملون الأفكار "الطالبانية"، وفريق حيى ما قالته وزيرة الإعلام النيجيرية "دورا أكونيلي" حينما وصفت مقتل "يوسف" بأنه أفضل حدث في نيجيريا كونه تسبب في قتل المئات وهدد بنقل العنف إلى باقي ولايات الشمال، مع توجيه انتقاد شديد لمنظمة "هيومن رايتس" التي اتهمت نيجيريا بقتل يوسف دون محاكمة (البيان الرسمي ذكر أن الرجل قتل في 30 يوليو عن 39 عاماً أثناء محاولته الفرار من مكان اعتقاله، فيما قالت بعض المصادر إن الشرطة أطلقت عليه الرصاص وهو مقيد اليدين). وبقدر التباين في المواقف من هذه الجماعة داخل المجتمع النيجيري المتعدد عرقياً (250 جماعة إثنية إلى جانب أقليات غربية وهندية وصينية ويابانية وسورية ولبنانية) والمتعدد لغوياً (حوالي 521 لغة مختلفة مع اتخاذ الإنجليزية كلغة رسمية جامعة) والمتعدد دينياً ومذهبياً (يدين 95 بالمئة من سكان الأقاليم الشمالية بالإسلام السني، فيما يدين سكان الجنوب بالمسيحية الكاثوليكية والبروتستانية، وتوجد أقليات تعتنق اليهودية والهندوسية والبهائية والوثنية والكريسلامية - مذهب يجمع ما بين الإسلام والمسيحية - هناك تباين لجهة العوامل التي أفرزت ظاهرة "بوكو حرام". فمن قائل إن السبب هو الإحباط في أوساط خريجي الجامعات العاطلين، خصوصاً أن جل أعضاء "بوكو حرام" كانوا من هؤلاء - هناك من اعترض على هذه النظرية، مشيراً إلى أن عدداً لا يستهان به من رفاق يوسف جاؤوا من أسر ثرية ومعروفة، مضيفين أن عدم اتخاذ السلطات النيجيرية لإجراءات استباقية ضد الجماعة، ربما كان سببها الخوف من تلك الأسر وما تمثله من نفوذ!... إلى قائل إن وراء السبب تقف خلفيات تاريخية كالنظر إلى الحكومة الحالية على أنها امتداد لحكومة المستعمرين البريطانيين الكافرة (نالت نيجيريا استقلالها من بريطانيا في عام 1960، وتحولت إلى دولة اتحادية من الأقاليم الشمالية والجنوبية في عام 1963). إلى قائل إن السبب هو أحد أشكال الصراع ما بين الشمال ذي الأغلبية المسلمة والأكثر تخلفاً والجنوب ذي الأغلبية المسيحية والأكثر تطوراً. ففي الشمال، توجد أقلية مسيحية تعرضت مراراً للاضطهاد والعنف والتهجير. وفي الجنوب – على خلاف الشمال - توجد ملامح للتطور الاقتصادي وأنماط من التعليم الغربي الراقي بفضل استيعاب الجنوبيين لهذه الأمور منذ زمن الإنجليز بطريقة أسرع ودون معوقات اجتماعية أو قبلية كحال الشماليين. غير أن النظريتين الأقرب إلى الحقيقة هما: نظرية تقول إن بروز "بوكو حرام" لم يكن سوى وسيلة لتسريع التطبيق الشامل لأحكام الشريعة في مقاطعات الشمال، بعدما صوت أبناء تلك المقاطعات في عام 2004 لصالح ذلك، كوسيلة لمكافحة الفساد. ويبدو أن يوسف وأنصاره لم تعجبهم طريقة حكومة "كانو" المحلية في تطبيق الشريعة، والتي انحصرت في تشكيل شرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (خاضت الحكومة الاتحادية نزاعاً قانونياً مع الحكومة المحلية حول عدم قانونية تلك الشرطة، إلى أن فازت مؤخراً) والفصل الجنسي في الأماكن العامة، ووضع مواصفات للزي الإسلامي، ومنع بيع وتناول المشروبات الكحولية، وحظر قيادة الذكور للدراجات وسيارات الأجرة التي تستقلها سيدات، وتطبيق الحدود الشرعية من جلد وبتر للأطراف. النظرية الأخرى تقول إن ما حدث كان ردة فعل لمقتل "آدم جعفر" على يد أشخاص ملثمين، وهو يؤم المصلين داخل مسجده. والشيخ جعفر رجل دين تلقى علومه الشرعية في دولة خليجية، وكان دائم الانتقاد لرجال الحكومة المحلية لفسادهم وإعاقتهم تطبيق أحكام الشريعة وإنفاقهم الميزانيات المخصصة لذلك في شراء المنازل والسيارات الفخمة، بل إنه هدد قبل اغتياله بيوم واحد بأنه سيوجه المصلين إلى طريقة التصويت كي لا تذهب أصواتهم في انتخابات اختيار محافظ لمدينة "كانو" إلى المحافظ الحالي"شيكارو"المتهم في قضايا فساد عديدة.