خلال الأسبوعين الماضيين تعرض نائب الرئيس الأميركي جو بايدن لانتقادات حادة على تصريحات بديهية أدلى بها لأحد الصحفيين حول المشكلات الداخلية التي تواجهها روسيا. وكان بايدن قد ألمح في تلك التصريحات إلى أنه ليس على الولايات المتحدة الأميركية أن تنشغل كثيراً أو تولي اهتماماً لتلك الدولة المستضعفة الخائرة. وكان ذلك كافياً لإثارة غضب موسكو التي ردت عليه بعنف لفظي واضح، بينما واصل المعلقون الصحفيون الروس قولهم إن ما ورد في تصريحات بايدن يكشف جوانب ظلامية في دبلوماسية واشنطن ونواياها الحقيقية تجاه بلادهم. أما في واشنطن، فسارع ناطقون رسميون في البيت الأبيض إلى التقليل من أهمية تلك التصريحات واصفين إياها بأنها مجرد عثرة من عثرات بايدن. لكن ليس من المفاجئ أو المدهش أن يحتمل الحديث عن التناقص الديموجرافي في روسيا، وعن تزايد اعتماد روسيا على صادرات سلعها ومنتجاتها، وعن اهتزاز بنوكها ونظامها المالي... إلخ، تفسيراً آخر مختلفاً جداً، بحيث تفهم منه رغبة الولايات المتحدة في الدفع بمصالحها وأجندتها الخاصة في المنطقة على حساب موسكو، دون أن تواجه بردة فعل غاضبة من الكريملين. وعلى أية حال فقد بدا أن السؤال الذي وجهه الصحفي إلى بايدن، لم يكن له علاقة بما تفعله واشنطن لاستفزاز موسكو وإثارة غضبها، وإنما كان يرمي إلى عكس ذلك تماماً: أي أن بوسع الولايات المتحدة ردع روسيا، لكنها لا تفعل سوى النزر اليسير جداً لتحقيق ذلك الهدف... فلماذا إذن؟ وفي إجابته عن السؤال، بدا بايدن كمن يريد تحوير الموضوع. فعلى نحو غير مباشر يفهم من إجابة بايدن ما يفيد اعتقاده بأن روسيا سوف ينتهي بها الأمر إلى ردع نفسها ذاتياً. وعليه فلا داعي لأن تبذل الولايات المتحدة الأميركية جهداً في هذا الردع المطلوب. وقد نظر إلى هذه الكلمات على أنها استفزاز لروسيا واستهانة بها وبمصالحها. كما فهم منها أيضاً أن واشنطن تسعى إلى تحقيق مصالحها ومآربها في المنطقة على افتراض أن موسكو لم تكن أصلاً! وأياً كان السؤال الذي أجاب عنه بايدن، فلا تزال إدارة أوباما مطالبة بتقديم إجابة أكثر وضوحاً وتحديداً عن دبلوماسيتها الخاصة بموسكو. والحق أن في تفسير بايدن لموقف بلاده بقوله إن واشنطن لا ترغب في وضع نفسها في تعارض مع موسكو، محاولة لاختطاف إنجاز دبلوماسي كان قد تحقق سلفاً. ولكي يطمئن بايدن أولئك المتشككين في قصر أفعال أميركا عن أقوالها وتصريحاتها الدبلوماسية، فقد كان عليه أن يكون أكثر شفافية ومباشرة في الحديث عما يجب فعله لتعزيز استقلال جارات روسيا. وكان أوباما قد خص القادة الروس، أثناء زيارته لموسكو الشهر الماضي، بمزايا لم يمنحها حتى لأقرب حلفاء واشنطن. فقد مضى بعيداً في الحديث عن بناء علاقات بلاده بروسيا على أساس التوازن الاستراتيجي النووي، مع العلم أن السلاح النووي هو الذي يعطي روسيا صفة كونها قوة عظمى. وضمن مبادراته إزاء موسكو قبل أوباما مبدأ الربط بين خفض الأسلحة واستراتيجية الدفاع الصاروخي، مع أن هذه الأخيرة كانت تمثل الدافع الرئيسي لحماس نظيره الروسي ميدفيديف لعقد تلك القمة الثنائية. وإن كان لإدارة أوباما الكثير مما يمكنها قوله إيجاباً عن مساعي بنائها للعلاقات الأميركية -الروسية، فهل لها القدر نفسه مما يمكنها التحدث به عن مساعيها لتعزيز جارات روسيا؟ نثير هذا السؤال ونحن ندرك أنه من الغباء الاعتقاد بأن ضعف نظام روسيا المصرفي، أو تناقص عدد سكانها، أو أي من مشكلاتها الداخلية الأخرى سوف تثنيها عن تكرار استئسادها على جورجيا متى ما سنحت لها الفرصة. ومع ذلك فثمة الكثير من العوامل التي تساعد على تعزيز مصالح الولايات المتحدة في تلك المنطقة. أولها وأهمها أن معظم الجمهوريات السوفييتية السابقة المجاورة لروسيا، قد بدأت التعاون سلفاً مع الغرب، إلى جانب توطيد العلاقات فيما بينها بغية تعزيز استقلالها عن موسكو. فحين تسمح جمهورية قيرغيستان للولايات المتحدة باستخدام قواعدها العسكرية للوصول إلى أفغانستان، وحين ترفض أوزبكستان الانضمام إلى قوة رد عسكري سريع تعتزم موسكو إنشاءها إقليمياً، وحين توجه تركمانستان الدعوة لشركات الطاقة الأميركية والأوروبية لمساعدتها في كسر هيمنة شركة غازبروم الروسية على صادراتها من منتجات الطاقة، وحين يوجه الرئيس الأرميني دعوة لنظيره الجورجي لتسلم جائزة أرمينية، ففي كل ذلك ما يؤكد ميل العوامل الجيوسياسية كلها لصالح واشنطن. وهذه هي اللحظة التي تزداد فيها حاجة الجمهوريات المجاورة لروسيا إلى "طاقة أميركا وقوتها المضافة" على حد قول "دين آشيسون". فما أشد حاجة هذه الجمهوريات إلى مساعدات التدريب العسكري والعتاد الحربي، كي تتمكن من الدفاع عن نفسها في مواجهة سياسة الترهيب التي تمارسها عليها موسكو. كما تزداد حاجتها إلى الأسواق العالمية التي تحررها من هيمنة موسكو الاقتصادية عليها. كما تحتاج إلى الحضور الدبلوماسي المستمر الذي يسمح لها بمقاومة التدخل المستمر في شؤونها الداخلية. وهذا ما يجب على إدارة أوباما توفيره لضمان استقلال جارات روسيا. ستيفن سيستانوفيتش ------- زميل رئيسي بمجلس العلاقات الخارجية، عمل كبيراً للسفراء الأميركيين بالاتحاد السوفييتي بين 1997 و2001 ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"