"شنجن" هو اسم المدينة الأوروبية التي تم فيها التوقيع على توحيد تأشيرات الدخول إلى معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، تأشيرة واحدة من دولة واحدة تكفي للمرور عبر معظم دول الاتحاد. تستغرق مدة أطول، أسبوعين على الأقل، وشروطها أصعب، شهادة بنكية بالمعاملات المالية آخر ستة أشهر، وتأمين صحي دولي، والدعوة التي تبرر سبب الزيارة، وتحديد المدة المقررة. وهي مركزية في حاسب آلي في بروكسل عاصمة الاتحاد. سُجلت فيه جميع الأسماء المشبوهة والخطرة الممنوعة من الدخول من خارج أوروبا إليها، ومعظمهم من العالم الأفريقي الآسيوي. وقد استفاد منها عملياً الزوار العرب. فبتأشيرة من دولة أوروبية واحدة يستطيع أن يزور معظم باقي الدول. وبتأمين صحي لمدة عام يستطيع أن يأخذ تأشيرة متعددة يأتي بها إلى أوروبا، ويخرج متى وكيفما شاء. وبذلك أصبح الذهاب إلى دول أوروبا أيسر من الذهاب إلى بعض أقطار الوطن العربي. والسؤال هو: لماذا لا توجد "شنجن" عربية؟ يسأل الناس عن إنجازات جامعة الدول العربية على الأرض وفي حياتهم اليومية. كما يسألون عن مؤتمرات القمة العربية التي لا يُنفذ من قراراتها الكثير. وإنجاز واحد على الأرض مثل حرية التنقل عبر الحدود للأشخاص والبضائع أفضل بكثير من اجتماع دوري للقمة العربية، يحضره الراضون ويقاطعه الغاضبون. ما زال يغلب على صورة العرب في الغرب الاقتتال فيما بينهم في السودان والصومال والجزائر ولبنان واليمن، والعمل لتفتيت الأوطان في العراق والسودان والمغرب. وكذلك الصور النمطية الأخرى كتصدير الإرهاب. وفي جوانتانامو عينة من كل أرجاء العالم الإسلامي. وخطر إحداث قلاقل تهدد الأمن القومي للدول خاصة الأوروبية بتنظيماتهم العلنية والسرية، ودفعهم الزكاة وصرفها ليس فقط لدى ذوي الحاجات الخاصة بل أيضاً من أجل التسبب في مشاكل لبعض الأنظمة في الداخل والخارج. إن الحدود الحالية بين بعض الدول العربية هي من بقايا الاستعمار بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى وسقوط الخلافة، واستمرار الاحتلال بعد الحرب العالمية الثانية على رغم مساعدة الأقطار العربية مثل مصر والمغرب العربي لدول الاحتلال للانتصار على المحور ووعد الحلفاء لهم بالاستقلال بمجرد انتهاء الحرب. وكان العرب منذ أيام العثمانيين حتى ما بعد الاحتلال أحراراً في التنقل من مشرق الوطن العربي إلى مغربه. واستمر الأمر كذلك حتى الثورات العربية الأخيرة في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات وبلوغها الذروة في الستينيات في ذروة القومية العربية على رغم خطر انتشار حركة التحرر العربي والمد الاشتراكي من مصر وسوريا والجزائر إلى باقي الأقطار المحافظة. والآن العالم كله يتوحد باسم العولمة، والاتحاد الأوروبي تجمع سياسي، ومجموعة الثماني تجمع اقتصادي، إلا العرب الذين يزدادون تمزقاً وتقطعاً وتفتيتاً. فقد فرضت تأشيرات بين مصر ودول المغرب العربي، ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، وبين مصر ولبنان أثناء الحرب الأهلية، بل بين مصر والسودان على ضفاف النيل. ألا يمكن إقرار "شنجن" عربي واحد يسمح بالتنقل داخل الوطن العربي الواحد دون مطالبة بتأشيرة لدخول كل وطن عربي، وكلنا عرب نشارك بعضنا بعضاً في آمال واحدة في الحرية والوحدة؟ ألا يمكن التنقل بين ربوع الوطن العربي الواحد، وكلنا عرب، لدينا انتماء عربي واحد، يسمح بحرية التنقل للأشخاص وحرية التجارة دون حدود جمركية وحرية العمالة دون تهريبها والتحايل على قوانينها؟ ألا يمكن تصور "الولايات العربية المتحدة" أو تعميم نجاح تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة على جميع الأقطار العربية، أو تعميم تجربة اليمن بالوحدة بين الشمال والجنوب ضد حركات الانفصال، أو حتى تقوية تجربة الاتحاد المغاربي الذي ظل حبراً على ورق؟ مازال "الشنجن" العربي جزئياً واختيارياً بين بعض الأقطار العربية مثل مصر وسوريا والعراق واليمن والسودان والأردن. وقبل ذلك كان كل المغرب العربي بالنسبة للمصريين بلا تأشيرة، وكل المشرق العربي بما في ذلك لبنان، إما باسم العروبة وإما باسم السياحة. والآن إن لم يكن توحيد اثنتين وعشرين دولة عربية في "شنجن واحدة" ممكناً فعلى الأقل يمكن أن يتم ذلك على ثلاث مراحل، واحدة للمغرب العربي من مصر شرقاً حتى موريتانيا غرباً مروراً بليبيا وتونس والجزائر والمغرب وحتى السودان جنوباً. وهو شنجن "عربي أفريقي". تشترك أقطاره في نفس الهم من الفقر والبطالة وقلة الخدمات. و"شنجن" ثانية للشام تضم سوريا ولبنان والأردن والعراق وهو شنجن "آسيوي"، وثالثة خليجية تضم الإمارات والكويت وعُمان والسعودية واليمن والبحرين وقطر. وهو "شنجن" خليجي يضم الأقطار في شبه الجزيرة العربية وسطها وجنوبها وشرقها. عمقه مياهه الإقليمية البحر الأبيض والبحر الأحمر وأمنه القومي متواصل ضد تهديد الغرب أو الشرق أو الشمال، إسرائيل. فإذا ما نجحت التجربة يمكن توسيعها في "شنجن" عربي واحد يضم جناحي الوطن العربي في أفريقيا وآسيا. ففيمَ الخوف؟ قد تخشى دول النفط والثروة من هجرة العمالة العربية من الأقطار الفقيرة إليها خاصة مصر والسودان والصومال أو استقرار الفلسطينيين فيها بعد احتلال إسرائيل لوطنهم. وهو أيضاً ما تخشاه مصر على سيناء. وهو تخوف غير مشروع لأن العمالة بطبيعتها متنقلة وتخضع لقانون الهجرة. وقد كان العراق قبل الغزو الأميركي له مستقطباً ثلاثة ملايين من المصريين، هم فلاحون وعمال. وكانت ليبيا تستقبل مليوناً من العمالة المصرية. ولمَ تخوف العرب من العرب الذين يشاركونهم في نفس اللغة وعدم التخوف من غير العرب مع اختلاف اللغة، وربما الدين؟ ومخاطر العمالة غير العربية على الهوية العربية بدت ظاهرة. إن فوائد "الشنجن" العربي كثيرة. منها حل النزاعات الحدودية بين الأقطار العربية، التي كانت قائمة بين المغرب والجزائر، وبين مصر والسودان حول مثلث حلايب وشلاتين، وبين مصر وليبيا حول واحة الجغبوب، وبين مصر وفلسطين حول مثلث العوجة، وبين الأردن وفلسطين حول وادي الحمة... الخ. ومنها حماية الأوطان من التفتيت باسم التعددية الثقافية مثل السودان والصومال والمغرب في قضية الصحراء. واللغة العربية عنصر توحيد للأوطان المهددة بالتجزئة كما كانت اللغة العبرية عنصر توحيد لكل المهاجرين اليهود من الشرق والغرب إلى إسرائيل أثناء تكوين الدولة العبرية. فالعروبة ليست بأب أو أم فقط. إنما العروبة هي اللسان. ومنها ذوبان الهويات القُطرية من أجل التكامل العربي. وبالتالي تتحقق أهداف جامعة الدول العربية منذ نشأة الجامعة عام 1947 وإمكانية تطويرها بعد ستين عاماً في عصر التكتلات الكبرى. إن خطوة واحدة على الأرض نحو الوحدة العربية خير من عشرات مؤتمرات القمة ومئات القرارات والتصريحات منذ السوق العربية المشتركة عام 1954 ولم يتم منها شيء. ولقد بدأت أوروبا من جماعة الحديد والصلب قبل الاتحاد الأوروبي بخمسين عاماً. والتدرج من أجل تغيير الواقع خير من إعلان "الكل أو لا شيء" وتلك هي الحكمة من النسخ عند القدماء.