تنقل الرواية التاريخية أنه عندما طُرد المسلمون من الأندلس التفت آخر ملوك غرناطة، وهو \"أبو عبد الله\"، وراءه وهو ينظر إلى ملكه الضائع متحسراً لتنِد عنه زفرة حارة سجلها التاريخ باسم \"زفرة العربي الأخيرة\". لكن منذ الخروج الأخير للمسلمين من أوروبا وحتى عودتهم إليها في إطار الهجرة، جرت مياه كثيرة تحت الجسر وعلت الأصوات ومعها الأقلام محذرة تارة من رجوع المسلمين مجدداً إلى أوروبا، بعدما تكاثرت أعدادهم، وطوراً معترفة بدور الهجرة في تعزيز الاقتصاد متبنية تصوراً للهوية الأوروبية أكثر انفتاحاً على الثقافات الأخرى وأقل انغلاقًا على الذات. وليس بعيداً عن النظرة الأولى الضيقة والمحذرة من الهجرة وتداعياتها على تماسك المجتمعات الأوروبية وقيمها، يقع الكتاب الذي نعرضه اليوم للصحفي الأميركي \"كريستوفر كالدويل\"، وعنوانه: \"تأملات حول الثورة في أوروبا... الهجرة والإسلام والغرب\". فحسب الكاتب، فاقت تداعيات الهجرة الجوانب الاقتصادية التي يشتكي منها البعض لتلامس في المنظومة القيمية والاجتماعية في أوروبا، وهو ما يهدد بإحداث ثورة حقيقية في المجتمعات الأوروبية. وتدليلاً على دعواته المحذرة من \"عودة الإسلام\" إلى القارة العجوز وتغييره لملامحها العامة، يلجأ المؤلف إلى الأرقام قائلاً: \"في أواسط القرن العشرين لم يكن من وجود تقريباً للمسلمين في أوروبا الغربية، واليوم هناك 15 مليون مسلم منهم خمسة ملايين في فرنسا، وأربعة ملايين في ألمانيا، ومليونان في بريطانيا\". والمشكلة، كما يرى الكاتب، أن المواطنين الأوروبيين لم يصوتوا لاستضافة المهاجرين المسلمين ولم يؤخذ رأيهم عندما قررت النخب السياسية فتح أبواب أوروبا في وجه القادمين من الجنوب، بل اضطروا إلى ذلك غداة الحرب العالمية الثانية بسبب الحاجة التي ظهرت وقتها لإنعاش الاقتصاد وتعزيز القطاع الصناعي، مما فرض ضرورة استضافة اليد العاملة. لكن هؤلاء المهاجرين سرعان ما رسخوا جذورهم في بلدانهم الجديدة لتصل الهجرة إلى الجيل الثالث دون أن يتمكن المهاجرون من الاندماج الحقيقي في مجتمعاتهم وإعادة صياغة هوياتهم على ضوء الثقافة والقيم الأوروبية. والنتيجة نشوء خط تماس على درجة من الخطورة في قلب المجتمعات الأوروبية بين الحريصين على هوية خاصة لا تنفتح على الآخر ولا تقبله إلا بقدر ذوبانه الكلي في روافدها الثقافية، وبين نخبة ينتقدها الكاتب؛ لأنها متعالية على انشغالات المواطن العادي وهواجسه من الهجرة بسعيها الدائم إلى شرعنتها والتعامل معها كعنصر مشكل للثقافة الأوروبية وهويتها. ولعل ما يفاقم المشكلة ويزيد من حدتها هو صعود الإسلام السياسي في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط وتسرب أفكاره إلى الضفة الشمالية، وهو ما يثير المخاوف من الإرهاب وتبني الجاليات المسلمة الكبيرة في أوروبا لأيديولوجيات متطرفة. هذا الوضع المنذر بالانفجار في أي وقت، يقول الكاتب، أججته دولة الرعاية الأوروبية، معتبراً أن الدعم الحكومي للفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة شجع المهاجرين على الاستقرار في بلدان أوروبا الغربية. وفي معرض تحذيره من الهجرة على مستقبل المجتمعات الأوروبية، خاصة الهجرة الإسلامية، لما يلعبه فيها الدين من دور حاسم في صياغة هوية المهاجر، يستحضر الكاتب الهجمات الإرهابية التي هزت بعض المدن الأوروبية، مثل مدريد ولندن، ليبرهن على التوجهات الراديكالية لبعض المسلمين في أوروبا. فمثلاً يشير إلى تفجيرات عام 2005 التي استهدفت شبكة قطارات الأنفاق في لندن، حيث كشفت التقارير الأمنية أنه من بين الأربعة الذين نفذوا الهجوم ثلاثة منهم مواطنين بريطانيين من أصول باكستانية، فيما الرابع بريطاني مولود في جاميكا واستقر في بريطانيا منذ طفولته الأولى. وخلافاً للجيل الأول من المهاجرين إلى أوروبا الغربية، حيث وسائل الاتصال مع الوطن الأم كانت محدودة وثورة المعلومات لم تظهر بعد، أصبح الجيل الثالث من المهاجرين أكثر اتصالاً بأوطان آبائهم وأكثر اطلاعاً على ما يجري فيها. فقد قلصت \"الإنترنيت\" والفضائيات التلفزيونية المسافات وأصبح بمقدور الشباب الأوروبي المسلم أن يتابع القنوات الدينية التي تبث من أي مكان ويتماهى مع هويته الدينية على حساب قيم المواطنة الأوروبية. وهكذا تحول الدين، حسب الكاتب، إلى هوية بديلة للمسلمين في أوروبا الغربية. غير أن ما يتغافل عنه المؤلف، وهو يقرع طبول الخطر والتحذير، هو أن هؤلاء المهاجرين المسلمين ليسوا كتلة واحدة تنطبق عليهم فرضياته، وذلك لاختلاف تجاربهم وتباين بيئاتهم الأصلية، بما لا يبرر نبرة المبالغة والتهويل. ومعروف أن المسلمين في أوروبا مازالوا أقلية غير مهيأة لاكتساح المجال العام، كما أن التنافر بين الإسلام من جهة والحداثة الأوروبية من جهة أخرى، ليس صحيحاً، ناهيك عن أن الثنائية التي رسمها الكاتب لهوية إسلامية وأخرى أوروبية يتعين على المسلمين الاختيار بينهما، تناقض في حد ذاتها قيم الحرية الأوروبية التي تدعو إلى عدم فرض خيارات بعينها على الفرد، لا سيما أنها خيارات وهمية، إذ ما المانع من الجمع، في إطار هوية واحدة، بين العنصر الإسلامي والمكون الأوروبي؟! زهير الكساب الكتاب: تأملات حول الثورة في أوروبا: الهجرة والإسلام والغرب المؤلف: كريستوفر كالدويل الناشر: دوبلداي تاريخ النشر: 2009