مازالت التنمية العربية عاصية ومستعصية، وحتى الكتابة عنها تثير الجدل. هذا ما حدث عندما تم إطلاق أحدث تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: \"التنمية البشرية العربية\" لسنة 2009 تحت عنوان \"تحديات أمن الإنسان في البلدان العربية\"، والذي يرتكز على مقولة مهمة: إن أمان الإنسان العربي شرط التنمية، ولن تكون هناك تنمية إذا لم يتحقق أمان الإنسان العربي أولاً، من التحديات الداخلية والخارجية. تم الإطلاق الأول في بيروت يومي 21 و22 يوليو، ثم كان الإطلاق الثاني بعدها بأسبوع في واشنطن يوم 29 يوليو، وقد دُعيت للحديث في العاصمتين مع اختلاف المكان، كان الإطلاق حدثاً إعلامياً، والجدال قوياً. في بيروت، تحدثت خلال حفل الإطلاق شخصيات عربية مهمة، من بينها ممثل أمين عام الجامعة العربية، ورئيس وزراء لبنان. كان خطاب الأول قصيراً، لكنه كان ناقداً للتقرير، أساساً لأنه يدين دون تفرقة سياسات الحكومات العربية. خطاب يمثل تعبيراً عن النظام العربي الرسمي. أما خطاب السنيورة فكان، على العكس، مفصلاً ومشيداً بالأجزاء المختلفة للتقرير. وفي جلسة الغداء التي جرت في السراي على شرف من ساهموا في إعداد التقرير، كانت تساؤلاته محددة عن خطورة تحديات أمان الإنسان العربي وآثارها السيئة على التنمية العربية. في واشنطن، كان الجمع كبيراً كذلك: من أجهزة الحكومة الأميركية، بمن فيهم وزارة الخارجية، وبعض السفارات العربية، والكثير من المنظمات غير الحكومية، وممثلو الإعلام... كما اشترك في المائدة المستديرة الصحفي المعروف توماس فريدمان، وكذلك ويندي شامبرلين، السفيرة الأميركية السابقة في باكستان والرئيسة الحالية لمعهد الشرق الأوسط في واشنطن. وأرى أن إطلاق هذا التقرير عن أمن الإنسان العربي لم يكن مجرد احتفالية للتسلية، بل مناسبة لمناقشات في الصميم حول تهديدات هذا الأمان: من مشكلة الدول العربية المهيمنة، إلى مشاكل البيئة وتلوث المياه أو ندرتها، إلى نقص الغذاء والتدهور الصحي، وصولاً إلى مشاكل الاحتلال والتدخلات الأجنبية. بسبب تنوع المشكلات وثراء المناقشة، كان من الصعب أحياناً التحكم في ضبط وقت الجلسات، خاصة في بيروت، حيث كان حضور السياسيين بارزاً، من ليلى شرف، رئيسة وزراء الأردن السابقة، إلى النائبات الأربع اللواتي فزن أخيراً في الانتخابات الكويتية، بالإضافة إلى اجتماعات جانبية مع بعض النواب اللبنانيين، كما حدث في إحدى الأمسيات في قصر السيدة بهية الحريري بصيدا. والحقيقة أن ثراء الجدل والمناقشة لم يكن فقط بسبب مشاركة السياسيين، ولكن أيضاً بسبب الإشكاليات والتحديات التي تثيرها مثل هذه التقارير. ولنتذكر ذلك الجدل الذي ثار عندما بدأ هذا البرنامج الأممي الإنمائي بأول تقاريره عن الوطن العربي عام 2002، وتأكيده على ثلاثة أوجه للعجز تُكبل شعوب المنطقة وتمنع مسيرتها من الانطلاق: النقص في الحرية، والنقص في المعرفة والنقص في حقوق المرأة. ثم تابع تقديم هذه النقائص بتحليل كل منها بإسهاب في تقرير مستقل خلال السنوات 2003 و2004 و2005. ومازال اقتباس هذه التقارير حتى الآن مستمراً، وكذلك النقاش الحامي، ويوافق الغالبية على أن كثرة جداولها وجدية تحليلاتها، قد جعلا من هذه التقارير مرجعاً أساسياً لكل من الدارس وصانعي السياسات. وأعتقد أن التقرير الحالي لسنة 2009، سيفرض نفسه على الحلبة الثقافية العربية، وسيثير الجدل نفسه، إن لم يكن أشد. فتقرير 2009، يتميز بالشمولية، إذ يصعب أن تجد مجلداً من حوالي 270 صفحة يضم كل هذه التهديدات لأمان الإنسان العربي، وهي سبع تهديدات خطيرة تنخر في الجسم العربي لتصيبه بالضعف والهوان وتجعله فريسة سهلة لمطامع الخارج. قد تختلف التهديدات من قطَر إلى اليمن، ومن سوريا إلى المغرب، لكن كل منها يواجه اثنتين أو ثلاثاً من هذه التهديدات وفي أشد صورها. وتشترك الأقطار العربية جميعها تقريباً في نقص مفهوم المواطنة وسوء استخدام القوة والإكراه من جانب الحكومات. ويدعم هذا التحليل بناء معماري قوي من الجداول والأطر البيانية. وكمثيله من التقارير السابقة، سيستمر النقاش والتمحيص حول تقرير سنة 2009، وقد تأتي الفرصة للولوج لتحليلاته عن قرب.