تلهث الولايات المتحدة الأميركية وراء الصين كي تلحق بها، أو تتجاوزها إن أمكن، في بناء علاقات وطيدة مع القارة السمراء، وهي مسألة ظهرت معالمها في ثنايا الجولة الحالية لوزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في سبع دول أفريقية، والتي تستغرق أحد عشر يوماً، وقبلها زيارة الرئيس باراك أوباما لغانا، فأوباما وكلينتون يريدان أن يحققا أي شيء من المعادلة التي صكها مسؤول أميركي كبير قبل عشر سنين حين قال: \"أفريقيا تمثل الحدود الأخيرة للمصدرين والمستثمرين الأميركيين، وفيها إمكانات كبيرة وواعدة.. نفط القارة السوداء بات يشكل مصلحة قومية استراتيجية لنا\". لكن أميركا التي تنظر بلهفة إلى بحار النفط المطمورة تحت الأراضي المحيطة بخليج غينيا، تصطدم بعقبة كأداء في سعيها إلى الانفراد بأفريقيا، ألا وهي الصين التي واصلت بخطى ثابتة ومدروسة بعناية فائقة، تقدمها نحو بناء علاقات اقتصادية راسخة مع القارة السمراء، لتجرف في زحفها الواثق مصالح دول أوروبية تربطها بأفريقيا علاقات تاريخية متعددة. والوثبة الأكبر للصين على الساحة الأفريقية تحققت منذ إنشاء \"المنتدى الصيني- الأفريقي\" عام 2000، فبعده حدثت طفرة لافتة في حجم التجارة البينية للطرفين، ليتجاوز حاجز عشرة مليارات دولار في العام المذكور، ويواصل تقدمه ليبلغ 12 مليار دولار عام 2002، ثم 13 ملياراً في العام الذي يليه، ولم يلبث أن قطع خطوات واسعة ليصل إلى 39.7 مليار دولار عام 2005، ثم 50 ملياراً عام 2009، وتطمح إلى أن تصل بها إلى 200 مليار بنهاية العام المقبل. وقد أسست الصين أكثر من 800 شركة في أفريقيا تدير استثمارات تصل قيمتها إلى 6 مليارات دولار، ووقعت اتفاقيات استثمار مع 28 دولة، دشنت بمقتضاها ما يربو على 900 مشروع تتوزع على قطاعات البناء والبتروكيماويات والطاقة والثقافة والتعليم والصحة وتصنيع الأغذية. وعلى التوازي، زاد اعتماد الصين على القارة السمراء في الحصول على النفط الخام، لتستقدم 30 في المئة من احتياجاتها النفطية من السودان وأنجولا على وجه الخصوص، فيما يتوقع أن تصل هذه النسبة إلى 45 في المئة في غضون السنوات القليلة المقبلة. وتعتمد الصين في تعزيز علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع دول القارة الأفريقية على عدة مبادئ، تفتقد أغلبها الولايات المتحدة وهي: 1 ـ اعتماد مبدأ المساواة والمنفعة المتبادلة والتنمية المشتركة. ففي مقابل الاستفادة من نفط أفريقيا وثرواتها المعدنية وأسواقها المفتوحة، قدمت الصين مساعدات اقتصادية لـ53 دولة أفريقية، خلال نصف القرن الماضي، وألغت ديوناً بقيمة 10.9 مليار يوان (1.36 مليار دولار أميركي) عن 31 دولة أفريقية. كما ألغت التعريفة الجمركية على 190 نوعاً من المنتجات المصدرة من 29 دولة أفريقية، ودربت أكثر من 10 آلاف موظف أفريقي، في مختلف التخصصات. 2 ـ عدم التدخل في شؤون الدول الأفريقية، على غرار ما تفعله بعض الدول الغربية، وفي مقدمتها أميركا، التي تستخدم قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان كشروط لتقديم المساعدات والمعونات والاستثمارات. وتستند بكين في هذا على سمعة تاريخية ناصعة، إذ إنها لم تمارس الحكم الاستعماري للقارة السمراء، ولم تشارك في جريمة نهب ثرواتها وقدراتها واستعباد شعوبها ردحاً طويلاً من الزمن. وتتوخى بكين الحذر في تصديرها السلاح إلى دول القارة، التي تحصل على نحو 10 في المئة من مبيعات الصين من هذه السلعة، متجنبة الظهور في أي لحظة في موضع من يؤجج الصراعات الداخلية والحروب الأهلية والتمردات العسكرية في القارة. 3 ـ مراعاة احتياجات المواطنين الأفارقة لسلع رخيصة ومتنوعة وضرورية، من خلال الدراسة المتأنية للأسواق، ولأنماط الاستهلاك، والتركيبة الطبقية، والعادات والتقاليد والسلوك، ومنظومة القيم السائدة. 4 ـ المزاوجة بين إرضاء الأنظمة الحاكمة وعدم إغضاب الشعوب، فالزيارات الرسمية التي قام بها مسؤولون صينيون لدول أفريقية على مدار العقود الأخيرة، والتي وصلت إلى أكثر من 800 زيارة، تزامنت مع تأكيدات مستمرة لشعوب هذه الدول بأن علاقات بكين مع هذه الأنظمة ترمي في المقام الأول إلى تحقيق صالح الناس، ولا تشجع أي أعمال منافية لحقوق الإنسان والقانون الدولي. 5 ـ تجنب الدخول في منافسة سافرة مع القوى الاقتصادية العالمية الكبرى، التي تزاحم الصين في القارة السمراء، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، التي أبدت اهتماماً كبيراً بأفريقيا، بعد طول إهمال، حين اكتشفت أنها مكان واعد في مجال الطاقة. ومن هنا حرصت الصين على تأكيد عدم استهداف الاجتماع الأخير للمنتدى الصيني- الأفريقي أي طرف أو قوة دولية، وتشديدها على أن هذا التجمع الدولي ليس له هدف سوى تحقيق الاستقرار وتأمين السلام، وبناء الشراكة الاستراتيجية، وتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في القارة السمراء. وتعتمد الصين في هذا المضمار عامة على التغلغل الهادئ في أسواق أفريقيا ومفاصلها الاقتصادية والتجارية، بالتوازي مع تعزيز العلاقات السياسية البينية، والدفاع المدروس عن قضايا دول القارة في المحافل الدولية، وعن كفاحها المضني من أجل حيازة نظام اقتصادي وسياسي عالمي جديد، يجد فيه الأفارقة العدالة التي يتوقون إليها، ويعملون من أجلها، منذ زمن بعيد. 6 ـ التحلي بالرؤية الاستراتيجية العميقة، إذ تدرك الصين أن ارتقاءها كقطب عالمي يحتاج إلى ركائز عدة في مقدمتها الحصول على نصيب وافر من مصادر الطاقة، التي تمتلك القارة الأفريقية قدراً ملموساً منها، يتعزز بمرور السنوات. فقد نما نصيب القارة السمراء من إجمالي النفط العالمي ليصبح 11 في المئة في العام المنصرم، في حين تتوقع الدراسات وصول هذه النسبة إلى 30 في المئة بحلول 2010، فضلاً عن امتلاك أفريقيا حوالي 10 في المئة من إجمالي الاحتياطي العالمي. وتضع الصين نصب عينيها أن الولايات المتحدة تحاول أن تحرم منافسيها العالميين المحتملين، ومنهم الصين، من السيطرة على مصادر الطاقة، وهو ما يشكل أحد أسباب الاحتلال الأميركي للعراق، ووضع واشنطن يدها، عبر العلاقات السياسية والاقتصادية والاتفاقات التجارية والنفوذ العسكري، على قسط كبير من نفط بحر قزوين وغرب أفريقيا. ونظراً لأن الصين تعاني من نقص في الطاقة، حيث تنتج 3.5 مليون برميل نفط يومياً بينما تستهلك 6.4 مليون، فإنها في حاجة ماسة إلى البحث عن تعويض هذا النقص، خاصة مع تزايد القدرات الصناعية الصينية، حيث بلغ معدل النمو الصناعي 31.5 في المئة في عام 2008. ومع تحقيق الصين فائضاً في الميزان التجاري وصل إلى أكثر من 250 مليار دولار في العام المذكور، في وقت تقدمت فيه من المركز السابع والعشرين على مستوى العالم في مجال التجارة الخارجية عام 1978، إلى المركز السادس عشر عام 1990، ثم إلى المركز الثامن عام 2000، فالمركز الرابع عام 2003، وأخيراً الثالث في العام الماضي، بعد أن ازداد معدل الصادرات بنسبة 35.7 في المئة عما كان عليه قبل سنتين، ليصل إلى ما قيمته 1154.79 مليار دولار. وعلى هذه المبادئ، تتقدم العلاقات الاقتصادية بين الصين ودول أفريقيا، وتنتقل تدريجياً من اعتبار البلدان الأفريقية مجرد سوق رائجة لتصريف منتجات الصين الرخيصة والغزيرة إلى بناء صيغة من الشراكة في مجال التنمية، قد تعوض القارة السمراء عن جزء من خسائرها الفادحة خلال الحقبة الاستعمارية البغيضة، وتفيد الصين في سعيها الجاد الطموح إلى أن تصبح قطباً عالمياً بارزاً، يعيد التوازن المفقود إلى النظام الدولي الراهن، وهو الوضع الذي يقض مضجع الولايات المتحدة ومعها أوروبا، ومن ثم تطوف كلينتون على سبع دول في جولة طويلة زمنياً، ستفتح الباب أمام جولات أخرى، لعل \"الكاوبوي\" الأميركي ينتزع أي شيء من أنياب التنين الصيني.