التاريخ الذي يتحدث عنه الناس في كل مكان لم يكتب بعد، وحين يكتب سيتعلم أحفادنا أنّ كثيراً مما ورثوه ليس أكثر من خرافات وأساطير. يجب أن نتفق أولاً أنّ الحضارات تكمل بعضها على مدى التاريخ. ويجب أن نعترف أنّه لم يصلنا شيء يدل على الحضارة العربية القديمة، فالمدنيات العربية التي قامت قبل الإسلام لم تخلف ما يدل على تحضر كبير، بل كل ما بنيت عليه حضارة العرب إنما نشأ بنشوء الدول الإسلامية المتعاقبة. وآخر إمبراطوريات المسلمين كانت الدولة العثمانية (1299-1924) التي سادت منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وشمال إفريقيا والسودان والصومال وأجزاء واسعة من أوروبا. وحين انهارت هذه الإمبراطورية مترامية الأطراف، بقي منجزها الحضاري محصوراً في تركيا نفسها وبشكل لا يتعدى المساجد العثمانية وتركة ثقيلة من الإرث الإداري المتخلف. وقد اصطلح على تسمية القرنين السابع عشر والثامن عشر بالعصر الكولونيالي، وهو مصطلح ملتبس ويرتبط في أذهان العرب وغيرهم بمفاهيم الاستعباد وانعدام السيادة، في حين أن معنى \"استعمار البلاد\" بـ\"العربية\" هو إعمار الأرض ونشر التمدن فيها! بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها أدرك الأوروبيون عدم جدوى نشر التمدن والحضارة والديمقراطية بالقوة، فقرروا أنّ يصنعوا من الولايات التي خلفها العثمانيون دولاً على نمط الدول العصرية الحديثة، ومضوا ليصنعوا في تلك الأصقاع كيانات سياسية قد تنجح في خلق تنافس سياسي داخلي. بدأوا بتركيا، حيث جاؤوا بكمال أتاتورك وعلموه كيف يخرج بعقول الناس من 7 قرون من فساد السلاطين وأن يخاطب فيهم الشعور القومي، فنشأت تركيا الحديثة التي يحاول الإسلاميون اليوم العودة بها إلى عصور السلاطين، لكن جنرالات الجيش الذين طبختهم أفران \"الاستعمار\" ما برحوا يتصدون لمحاولات العثمنة. جاء النفط ليضيف إلى مفهوم الدول الجديدة عنصراً لم يكن في الحسبان، إذ أضحت معظم الكيانات التقليدية مجتمعات غنية، الأمر الذي أثار اهتمام أوروبا التي لم يقع اليمن في دائرة اهتمام باستثناء جنوبه المطل على مضيق عدن، وغادرها الإنجليز عام 1967 لأسباب جيوسياسية تتعلق بإغلاق قناة السويس عقب حرب الأيام الستة. وصنع البريطانيون والفرنسيون من الشام والهلال الخصيب دول العراق وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين، وقسمّوها بما يضمن لكل منها منفذاً بحرياً وما يتناسب مع علاقاتها بدول الجوار. ثم التفت \"المستعمران\"، البريطاني والفرنسي، بمصانعهما إلى أفريقيا فصنعوا مصر وتونس والجزائر وليبيا والمغرب، كما صنعوا السودان ودول القرن الأفريقي التي صارعتهم عليها الإمبراطورية الإثيوبية. ثم تعاقبت دول أفريقيا كلها دون استثناء في الخروج من مصانع الاستعمار، وهنا كان للإسبان والبرتغاليين والهولنديين مصانعهم التي ساهمت في صنع الدول، لتصبح 51 دولة لا يجمعها سوى الفقر والحروب الأهلية. واستمر مشروع صناعة الدول وامتد إلى عمق آسيا الشاسعة، فصنع \"المستعمرون\" إندونيسيا وتايلاند وكوريا الجنوبية وبورما والفيلبين وهونج كونج وتايوان وماليزيا وسنغافورة وأفغانستان... فيما لم يهتموا بالنيبال ومنغوليا وتركوا فيتنام وكوريا الشمالية وكمبوديا ولاوس للشيوعيين كي يجربوا أن يصنعوا فيها دولاً على طريقتهم. فخرجت علينا كوريا الشمالية بمشاريعها النووية، وطلعت فيتنام ولاوس بتصدير الخادمات والأيدي العاملة الأرخص في العالم. وطلعت ناضجة من المصنع دولة الهند التي سرعان ما انفصل عنها بعض مسلميها ليقيموا في باكستان ثم بنجلاديش. ولو التفتنا إلى الأميركيتين، فإن \"مصانع الاستعمار\" هي التي أنتجت الولايات المتحدة الأميركية، والتي هي في الحقيقة 52 دولة اتفقت على الاتحاد في القرن الثامن عشر متأثرة إلى حد كبير بمبادئ الثورة الفرنسية ومختارة أن تتبنى لغة المنشأ، فصارت الإنجليزية لغة البلاد الرسمية رغم أن سكانها جاءوا من كل أوروبا. كما اقتسم \"المصنعان\" صناعة دولة كندا كنموذج متواضع عن الولايات المتحدة الأميركية مازالت \"الإنجليزية\" و\"الفرنسية\" لغتيها الرسميتين. أما المكسيك، وهي موطن حضارة \"الأزتيك\" العريقة، فخضعت 300 عام للاستعمار الإسباني الذي قرر منحها الاستقلال لتصبح إحدى أقدم الجمهوريات في العالم، لكنها ولدت خديجاً ومازالت تضج بالمشكلات، وقد فقدت لغتها الأم لتتبنى لغة المنشأ الإسبانية. وفي أميركا الوسطى والجنوبية، لم يختلف الوضع كثيراً فقد عملت مصانع إسبانيا والبرتغال، فاحتل البرتغاليون البرازيل 500 عام وصنعوا منها دولة كبيرة رخوة، واحتل الإسبان الأرجنتين وبيرو وبوليفيا وتشيلي لثلاثة قرون ليصنعوا منها دولاً لا تقوى على أن تكون عصرية وبقيت متذبذبة بين الحداثة وبين روح المستعمرات الموروثة. وتنافست مصانع إسبانيا مع مصانع البرتغال على صناعة الدول الأخرى في أورجواي والهندوراس وفنزويلا والإكوادور وسورينام وترينداد وتوباجو وجويانا، وجاءت كل الطبخات التي تمت قبل قيام عصر الجمهوريات بنتائج مخيبة للآمال. أما كوبا، فحاول الشيوعيون أن يصنعوا فيها دولة برئاسة كاسترو رئيساً منذ عام 1958، ليورث أخاه مؤخراً كحاكم بالنيابة عنه! أما دول أميركا الوسطى، هندوراس وجامايكا وغواتيمالا وكوستاريكا وبليز وبنما والسلفادور ونيكاراغوا، فجمعها مشروع دولة اقترحه الإسبان في القرن التاسع عشر، عرف باسم الولايات المتحدة في أميركا الوسطى، لكنها عاشت ثمانية أعوام فقط لتسلم الدويلات إلى مافيا الموز والمطاط والمخدرات. وفي أقصى جنوب الكرة الأرضية، هناك قارة صغيرة تدعى \"أستراليا\" تضم دولتين: \"أستراليا\" و\"نيوزيلندا\"؛ كلاهما تتكلم \"الإنجليزية\" وكلاهما من دول الكومنولث، فهذه القارة بأكملها بريطانية بامتياز. لذلك يمكن أن نعرف من صنع تاريخ العالم الحديث، ومن يكتب الآن مستقبله، إنها ليست الولايات المتحدة الأميركية، بل أوروبا التي لم تعد تحتاج إلى قوات عسكرية لتثبّت أوضاع العالم كله، فجميع دول العالم تقريباً صنعت في مصانع أوروبا، والولايات المتحدة الأميركية ليست استثناءً. والسيادة والاستقلال اللذان يتشدق بهما قادة كل هذه الدول ونخبها السياسية، هما تركة المصانع الكولونيالية. ملهم الملائكة كاتب وصحفي عراقي ينشر بترتيب مع مشروع \"منبر الحرية\"