بسبب استمرار النزاع الذي أعقب انتخابات الثاني عشر من يونيو في إيران، فقد فرض على إدارة أوباما مواجهة معضلة حقيقية، شديدة التعقيد والصعوبة. فأثناء حملة سباقه الانتخابي الرئاسي، كان أوباما على أشد الوضوح في تأكيد أهمية انخراط فريق إدارته في محادثات دبلوماسية مع بعض الدول التي وصفتها إدارة بوش بالمارقة وامتنعت عن الحوار معها، رغم ارتباط بعضها \"مثل إيران\" بالإرهاب الدولي، إضافة إلى استمرار عملها في برنامجها النووي. وكانت توقعات الإدارة الجديدة في البيت الأبيض أن تبدأ جولة من المفاوضات الجدية مع النظام الحاكم في طهران، عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية مباشرة. وبسبب قمع المتظاهرين والمحتجين على نتائج الانتخابات الأخيرة، حيث يعتقد البعض أن الفائز الحقيقي بها هو رئيس الوزراء الأسبق مير حسين موسوي الذي نافس نجاد على الرئاسة في شهر يونيو المنصرم. فقد كان من رأي كثير من المراقبين أن الوضع في طهران يبدو شديد الشبه بأحداث عام 1989 في الصين حين أمر قادة النظام الشيوعي الصيني الحاكم، بسحق المتظاهرين والمحتجين في ميدان \"تيانامين\" الشهير. واليوم، مثلما كانت عليه الحال في الصين قبل ما يقارب عشرين عاماً، فإن على واشنطن أن تقبل واقع القمع الذي تمارسه حكومات مثل هذه الدول وتبدأ بالتفاوض الدبلوماسي معها، بصرف النظر عن أوضاعها وسياساتها الداخلية. فالأمور التي ترغب واشنطن في مناقشتها مع طهران من الخطورة والإلحاح، بحيث يصعب تأجيلها. لكن، وعلى خلاف ما حدث في ميدان تيانامين الصيني، حيث وضعت المذبحة الدموية حداً للمظاهرات وحركة الاحتجاج المطالبة بالحرية هناك، لم تؤد الفوضى والعنف اللذان أعقبا الإعلان عن نتائج الانتخابات في إيران إلى وقفها، بل جرى تداول الأنباء عن الصراعات داخل صفوف المحافظين أنفسهم على نطاق واسع، بينما ظهرت خلافات عميقة بين بعض القادة والأعضاء الكبار في المؤسسة الدينية والقائد الأعلى للثورة آية الله علي خامنئي. من جهة أخرى، هناك تحديات تواجه إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد للمنصب الرئاسي، إلى جانب الخلافات بينه وبعض وزراء حكومته. والآن وبعد تنصيبه رسمياً في منصبه، لاتزال الأسئلة والشكوك تحيط بمدى قدرة نجاد على الاستمرار في ولاية رئاسية كاملة مدتها أربع سنوات. وقد وفرت كل هذه التطورات وقوداً إضافياً لخصوم ومنتقدي إدارة أوباما، الذين علا صوتهم بالقول الآن إن سلوك طهران يعد مستفزاً للغاية، وإنه من التضييع للوقت محاولة إجراء حوار معه القادة الإيرانيين أو توقع التوصل إلى تنازلات معقولة من جانبهم حول أي من القضايا الرئيسية موضوع النزاع بين طهران والولايات المتحدة، بل المجتمع الدولي كله. ويقيناً، فإنه ليس في سلوك القائد الأعلى للثورة وقوات الحرس الثوري، المنحازين إلى صف نجاد وإلى حسم نتيجة الانتخابات لصالحه، مع قمع المعارضين وانتهاج ممارسات قاسية بحقهم، بل ما أعقب ذلك كله من بدء محاكمات صورية للخصوم السياسيين والمعارضين... ليس في أي من هذه التطورات والأحداث ما يشجع على الثقة في قيادة طهران، أو يعطي أي اتفاقات تتوصل إليها واشنطن معهم أدنى قيمة أو وزن. وبما أن هذه هي حقيقة الموقف، فماذا على إدارة أوباما فعله، مع استمرار طهران في تطوير برنامجها النووي، في حين تزداد مخاوف عدد من دول المنطقة، خاصة إسرائيل، باقتراب طهران من تحقيق طموحاتها النووية العسكرية؟ هناك من الأميركيين المتشددين من أمثال جون بولتون، السفير الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة، من يعتقد بضرورة ألا تعترض واشنطن طريق إسرائيل، فيما لو قررت الأخيرة أنه من مصلحتها الوطنية توجيه ضربة عسكرية استباقية للمنشآت النووية الإيرانية. غير أن وجهة النظر هذه لا تجد لها ما يكفي من التأييد، بعد أن رفضها مسؤولون رئيسيون في الإدارة الحالية، إلى جانب رفض القادة العسكريين لها. وفي الجانب الآخر، هناك العناصر الأخرى غير المتشددة التي ترى أن على أوباما التحلي بالصبر وعدم الإسراع في إجراء أي مفاوضات حالية مع طهران. يرى هؤلاء أن أسوأ نتيجة يمكن تصورها هي محاولة التفاوض مع نظام في طهران لم تتحد صفوفه الداخلية بعد. وعليه، فمن الحكمة الانتظار إلى أن يتم التوصل إلى تسوية ما للنزاعات الدائرة هناك، بدلاً من الانزلاق المتسرع في نوع من أنواع الدبلوماسية المغامرة، والتي سوف تكون لها تداعيات بالغة السوء على الدبلوماسية الأميركية والاستقرار الإقليمي في المنطقة. أبعد من ذلك، ثمة من يجادل بين هؤلاء بضرورة التصدي الآني للخطر النووي الإيراني، كمهمة مبالغ فيها من الأساس. فإيران -وفقاً لهؤلاء- لا تزال تفصلها عن تخصيب اليورانيوم الكافي لتطوير السلاح النووي بضعة أشهر. غير أن المعضلة التي يواجهها أوباما تتلخص في التعارض بين وجاهة وحكمة الدعوة للتحلي بالصبر والانتظار، وتصاعد القلق والضغوط الممارسة على الإدارة من قبل الكونجرس وأنصار إسرائيل ضد ما بدا لهم أشبه بتبني البيت الأبيض لاستراتيجية اللافعل إزاء طهران. ومع صعود عدد القتلى من الجنود الأميركيين إلى أعلى معدلاته مؤخراً، منذ اندلاع الحرب على أفغانستان في عام 2001، فإن العمل المشترك بين واشنطن وطهران في مسألة مهمة مثل الحرب ضد \"طالبان\" -حيث تلتقي مصالح واشنطن وطهران معاً- هو أكثر أهمية وفائدة من التفاوض معها حول برنامجها النووي. وفي ما نرى من عدم تحقيق أي تقدم يذكر في تسوية النزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، رغم الجهود التي بذلتها إدارة أوباما في هذه القضية منذ توليها لمهامها الرئاسية، فمن المرجح أن تسيطر إيران وأفغانستان على السياسات الخارجية لواشنطن خلال الأشهر القليلة المقبلة. ومهما يكن، فسوف تتوخى إدارة أوباما الكثير من الحذر إزاء التفاوض مع طهران في الوقت الحالي على الأقل، خاصة أن المعارضة الإيرانية قد شهدت صعوداً جديداً، بينما لا يبدو من المؤشرات ما يدل على قرب نهاية انتقاداتها واحتجاجاتها المتصلة ضد النظام. فكلما استمرت المظاهرات كلما ضعفت شرعية النظام، وبالتالي يصعب جداً على إدارة أوباما بدء أي مفاوضات جدية مع قادة طهران.