في وقت تضرب فيه الأزمة المالية العالمية والكساد الجارف بأطنابهما دنيا الاقتصاد وعالم الأعمال، تبقى الآن شركة واحدة سائرة بإصرار في الاتجاه المعاكس محققة معدلات رواج وربحية استثنائيتين، وكأن معدلات أدائها آتية من كوكب آخر! إنها "غوغل"، الاسم الآخر للتجديد والابتكار، والعلامة المسجلة للنجاح والإبهار في مجال صناعة الإعلان والتجارة الإلكترونية ومحركات البحث، بحسب ما يردد الواقعون في هوى تشويق قصة صعودها التي انطلقت من لا شيء، وحققت كل شيء، تقريباً. ولذا فلا عجب أن تجتذب ظاهرة "غوغل" اهتمام الكثير من المؤلفين من علماء الاقتصاد والاتصال، خلال السنوات الأخيرة، حيث صدر عدد لا حصر له من الكتب عن هذه الشركة- الظاهرة، بغية فهم أسباب نجاحاتها الاستثنائية، وإن أمكن تصدير أسرار صعودها وفلسفة عملها إلى مجالات أخرى عديدة في عالم الأعمال، وأوجه الحياة العامة المختلفة. ولئن بات بعض تلك الكتب من المراجع الكلاسيكية خاصة في مجال الاقتصاد الجديد، واقتصادات التجديد، فإن بعضها الآخر وقع في إسار قرع طبول التخويف والنقد المجاني والتهويل من كل ما له صلة بـ"غوغل" وعالمها، وهي "فوبيا" صادفت خاصة هوى في نفوس الناشرين، الذين لطالما وضعوا "غوغل" على اللائحة السوداء، بزعم تعديها على حقوق الملكية الفكرية لمنشوراتهم، إن لم يكن ممارسة فعلى الأقل تواطؤاً، وتسهيلاً، بمحرك بحثها "غوغل" السحري. للمفارقة، على رغم شعار شركة "غوغل" الشهير: "لا تكن مصدر أذى لغيرك"! وضمن كل من النوعيتين من المؤلفات فيما بات يعرف بأدبيات "غوغل"، يمكن سرد عناوين كثيرة. ويمكن الإشارة هنا إلى أربعة كتب، على سبيل المثال لا الحصر: "كيف ستلتهم غوغل العالم" لدانيل إشبياه، و"كوكب غوغل: هل ثمة داعٍ للخوف من عملاق الشبكة" لستروس راندال، و"وجه غوغل الخفي" لإيبوليتا، ثم "ثورة في عالم الأعمال- نموذج غوغل" لبرنار جيرار. غير أن الكتاب الذي نشير هنا إلى بعض محتوياته، ضمن هذه القراءة الخاطفة، يمثل عملياً تجاوزاً منهجياً وتراكماً معرفياً لما انتهت إليه كل تلك الأدبيات. إنه كتاب: "ما الذي ستفعله غوغل في محلكم؟" للكاتب الأميركي جيف جارفيس، وهو أكاديمي وأستاذ جامعي للإعلام ومؤسس لمجلة "أنترتينمنت ويكلي" وصاحب مدونة شهيرة مهتمة بدراسات الإعلام الرقمي والاقتصاد الجديد. والكتاب يقوم على فرضية عمل في غاية الوضوح والبساطة: في عصر الاتصال غير المحدود والتجارة الإلكترونية لا يوجد نموذج أفضل يمكن لعالم الأعمال استلهام تجربته، واستنساخ قصص نجاحه، أفضل من شركة "غوغل" حصراً. ذلك أن "طريقة غوغل"، أو "قوانين غوغل" بما تقوم عليه من مبادئ تسيير اقتصادي وتوجيه سلوكي، مبتكرة، يمكن أن تعيد رسم ملامح عالم "البزنس"، وتقلب محدداته رأساً على عقب. وهنا يستعرض الكاتب عبر فصول كتابه مسطرة من المبادئ والسلوكيات يرى أن تطبيقها ممكن تماماً في مجالات أعمال تقليدية كثيرة مثل عالم البنوك، والسيارات، والنشر، والتعليم العالي، والصناعة الدوائية، بل وحتى صناعة الفنادق والمطاعم... إلخ. وهي ذاتها القواعد الحاكمة للاقتصاد الجديد، بكل ثوريته وقدرته على التجديد. وفي تفاصيل مبادئ "غوغل"، التي تقف خلف نجاحها في عالم الإعلانات والأعمال، يقف المؤلف طويلاً مع كل منها، ساعياً للبرهنة على إمكانية تطبيقها في مختلف المجالات كمفاتيح تجديد مضمونة وطرق سريعة لاجتراح النجاح، مع هوامش خطر قليلة وتبعات مجازفة ضئيلة. ومرحباً بكم هنا في عالم اقتصادات "غوغل". ففي مجال العلاقة بالشركاء والزبائن مثلاً تطبق "غوغل" مبدأ "حمِّلوا الزبائن المسؤولية وسيتحملونها بأنفسهم"، وفي سبيل تحسين قدرة موظفيها على تحمل المتعاملين، تؤكد أن "أردأ الزبائن ينبغي أن يكون هو أفضل الأصدقاء"، في حين يتعين أن يكون "أفضل الزبائن هو أفضل الشركاء". كما تعمل "غوغل" بمنطق إنجاز آخر تحدده مبادئ محددة من قبيل: "ركزوا على أحسن ما تتقنونه، وحافظوا على صلة ببقية المجالات"، و"كونوا دائماً أعضاء في شبكة"، و"فكروا في التوزيع". وفي مجال الترويج والاتصال، هنالك مبادئ حاكمة أخرى منها تلك التي تختصرها شعارات مثل: "العالم كله بحاجة إلى غوغل"، و"كل شيء في الحياة وعالم الأعمال ينبغي أن يكون شفافاً"، و"إن زبائنكم هم وكالة إعلاناتكم الحقيقية". على أن هذا الشعار الأخير في نظر كثيرين يُعد مفتاحاً سحرياً يسمح باكتشاف كثير من مغاليق نجاح "غوغل"، حيث تمكنت من خلاله من اجتراح رؤية ثورية ألغت كثيراً من كلاسيكيات عالم التسويق والترويج وصناعة الإعلان. ويسرد الكاتب دفقاً آخر من مبادئ الاقتصاد الجديد، كما تبشر به "غوغل"، منها ضرورة الاستفادة من الفرص غير المحدودة لـ"اقتصاد الوفرة"، وكذلك شعار: "المجانية نوع من إدارة الأعمال"، مع ضرورة الاقتناع الراسخ بإمكانية تحقيق أصعب الأهداف وبلوغ سقوف إنجاز أبعد دائماً؛ لأن "الصغار الآن هم الكبار غداً". ولأن "غوغل" تؤمن بأن العصر اليوم يسير بإيقاع جديد؛ لذا تعمل بمنطق أن الخدمة المقدمة للزبائن ينبغي أن تكون مباشرة، ومتوافرة في الزمن الواقعي؛ لأن الحشود الكثيفة يمكن أن يتم تشكيلها في لحظة، ومن هنا فإن الشركة الناجحة هي القادرة على استغلال هذه الميزة من خلال نوعية خدمتها، وعن طريق تحويل زبائنها إلى وكالة إعلانات ذاتية مجانية لصالحها، وهذه هي أفضل طرق الترويج في صناعة الإعلان الجديدة. ولا مرحباً بعد اليوم بالوسطاء التقليديين بكل أشكالهم، فقد ماتت وكالات الإعلانات وشركات العلاقات العامة، أو هي تلفظ أنفاسها الآن، كما يرى المؤلف. وأخيراً يعتقد "جيف جارفيس" أن تطبيق فلسفة عمل "غوغل" على مجالات الأعمال المختلفة سيغير وجه العالم، ولن يعود بعد ذلك مثل العالم الحالي الذي نعرفه، فستكون الصحف غير ورقية، وعالم الأعمال من دون إعلانات أو شركات ترويج، وستغلق دور النشر ويكتب عمر آخر بشكل مختلف لعالم الكتاب. كما ستتحول الاستثمارات إلى نوع من صناعة الشبكات، ويختفي الوسطاء التقليديون من الأسواق إلى الأبد. وستأخذ صناعة الصحة العامة هي الأخرى أشكالاً مختلفة عما كنا نعرف هي تلك المتبعة في "مستشفى القديس غوغل" حسب تعبيره، مثلما ستتحول الجامعات إلى نوع من التعليم المفتوح، ويختفي الإعلام التقليدي ويحل محله الإعلام التفاعلي. إنه عالم آخر، مختلف في كل شيء، عالم "غوغل" الذي يقرع الآن الأبواب، ويتسلل على رؤوس الأصابع أمامنا مستطلعاً شرفات المستقبل. حسن ولد المختار الكتاب: ما الذي ستفعله غوغل في محلِّكم؟ المؤلف: جيف جارفيس الناشر: تليماك وفابر نوفل تاريخ النشر: 2009