صادف العمل على نشر هذا الكتاب وطباعته، تصاعد الجدل العام حول مدى جدوى العمليات العسكرية التي تخوضها القوات البريطانية وحلف "الناتو" عامةً في أفغانستان. ومع تزايد عدد قتلاها من الجنود البريطانيين بصفة خاصة، كثرت التعليقات والتقارير الصحفية، التي تلقي باللائمة على نقص المعدات الحربية اللازمة للجنود البريطانيين هناك. وفي الوقت نفسه، كثرت الأسئلة المثارة من قبل الصحفيين وحتى جنرالات الجيش المتحيزين سياسياً، عما إذا كانت النتائج العسكرية الأمنية التي تحققها تلك العملية تعادل غلاء أرواح قتلاها من البريطانيين، وغزارة الدموع التي تذرف على حياتهم وشبابهم؟ وفي ظل أجواء القلق واللايقين هذه، كان من الطبيعي أن يزداد الميل إلى استراتيجية الانسحاب الفوري من أفغانستان. وهذا هو ما تروج له افتتاحيات الصحف بمعدل شبه يومي. لكن رغم ذلك تزداد الحاجة بالقدر نفسه، لإجابات محددة عن الأسئلة الحائرة المثارة، كي يستطيع الجمهور الثقة بها والاطمئنان إليها. ولعل إحدى هذه الإجابات ما يسمى بـ"الشرف". والمقصود بهذا أنه تم الإعلان، ضمناً أم صراحةً، عن التزام بريطانيا بدعم حكومة كابول التي أنشأت عقب طرد حركة "طالبان" من سدة الحكم، مع العلم أنها حكومة لا تزال تصارع كي تكون نيابية وديمقراطية حقاً. وأن تنسحب القوات البريطاني الآن من هناك، قبل أن يتمكن الجيش الأفغاني وقوات الشرطة الوطنية من فرض سيطرتهما التامة، هو في جانبه منه خيانة دون شك. بل هناك منطق له وجاهته في تبرير مواصلة الالتزام الذي بدأته بريطانيا في أفغانستان منذ عام 2001: فإذا ما هزم الجنود البريطانيون هناك في كهوف هلمند ووديانها -حيث ترابط حركة إرهابية ذات بعد ومطامع دولية- من شأن ذلك أن يشجع على إحياء خلايا وشبكات الإرهاب النائمة في برادفور وروتردام وغيرهما من المدن، حتى وإن تم ذلك عبر تبني تلك الخلايا للعمليات والهجمات الانتحارية. من هنا، تأتي أهمية هذا الكتاب الجديد لمؤلفه "بيتر نيومان"، الذي يكتسب أهميته من شموله في تغطية الظاهرة الإرهابية في وجهيها القديم والحديث، فضلاً عن عمق دراسته للظاهرة خلال عقدين مستمرين بذلهما من عمره. يذّكرنا المؤلف بأن في وسع شبكات الإرهاب الحديث أن تواصل عملياتها وخططها لبعض الوقت، سواء من داخل الكهوف أو بين أودية هلمند وغيرها من المعاقل الرئيسية في أفغانستان وباكستان. والمؤكد أن أي نصر تحققه تلك الجماعات على قوات التحالف الدولي، سيلقى صدى واسعاً عبر المواقع الإلكترونية المتعاطفة مع الإرهاب، وغيرها من وسائل الاتصال الحديثة، وهو ما يكون له تأثيره الكبير على إثارة حالة دولية من الهياج الإرهابي وتوحيد صفوف من يصفون أنفسهم بـ"المجاهدين" على نطاق العالم كله. كما يتوقع أن تتعلق قلوب هؤلاء بالشخصيات الكاريزمية المتطرفة، خاصة من أبطال وديان هلمند. وسوف تكون أي هزيمة لأي من قوات التحالف الدولي في أفغانستان، حافزاً كبيراً لدعاة العنف والقتل والتخريب، كي يفعلوا ما يشاؤون، متى وكيفما أرادوا. ويرى الكاتب أن الإرهاب في شكله واستراتيجياته الحديثة، قد اختلف عن أشكاله التاريخية القديمة من عدة وجوه وزوايا. غير أن أهم وجوه هذا الاختلاف يتمثل في تجاوز الإرهاب الحديث للشكل الهرمي القيادي التقليدي شبه العسكري لمنظماته. وفي رأي المؤلف أن الشكل التنظيمي للجيش الجمهوري الإيرلندي، كان يمثل النمط التقليدي للإرهاب القديم، مع التنبيه إلى أن المنظمة الإيرلندية تجاوزت ذلك النمط التقليدي فيما بعد. على نقيض ذلك الشكل التقليدي، عمد الإرهاب الحديث إلى التحرر من البنية التنظيمية الصارمة، وأصبح أكثر هلامية وميلاً للعمل عبر الأشكال التنظيمية المرنة مثل الخلايا الشبكية وغيرها من العلاقات المسطحة التي يصعب الإمساك بها، والتي تجعل القتال ضدها أشبه بالقتال ضد عدو شبحي لا يرى بالعين المجردة. ويوجه هؤلاء صفتهم الشبحية ضد أعدائهم الرئيسيين: الصهاينة والصليبيين والكفار، الذين يحمّلهم "الجهاديون" وزر خطيئتهم الدينية أو العرقية أو ماضيهم الاستعماري، فيعاقبونهم عليها بأشد أنواع العقاب. لكن الجانب المطمئن نوعاً ما في الكتاب، هو حديث الكاتب عن انحسار هذه الطاقة الدموية الشريرة نوعاً ما في أنحاء مختلفة من العالم. وردّ الكاتب هذا الانحسار جزئياً إلى استجابة الدول الغربية لخطر الإرهاب، إضافة إلى المقاومة الداخلية التي بدأت تواجهها تنظيماته الرئيسية مثل "القاعدة" و"طالبان". ولا تنحصر هذه المواجهة في الجانب العسكري الميداني فحسب، وإنما تمتد إلى منازلة الإرهاب فكرياً. ويعتبر الإسلامي المصري "سيد إمام الشريف" المشهور باسم "د. فضل" من أهم الشخصيات الإسلامية التي ناهضت التطرف الإرهابي فكرياً، وذلك عبر مراجعاته لمواقفه وآرائه السابقة، حين كان زعيماً لـ"تنظيم الجهاد" المصري. ومن أقوى ما توصل إليه "الشريف"، قوله إنه ليس في الإسلام نصوص تجيز قتل اليهود أو المسيحيين، وإن خلط دعاة العنف في فهم القرآن والسنة يلحق ضرراً بالغاً بالإسلام وتقاليده السمحة المسالمة. عبد الجبار عبد الله الكتاب: الإرهاب بين القديم والحديث المؤلف: بيتر نيومان الناشر: مطابع Wiley, John & Sons المتحدة تاريخ النشر: 2009