تعتبر الدراسات المستقبلية من المجالات الأكاديمية المهمة التي انتشرت على نطاق واسع في وقت من الأوقات بين المؤسسات الفكرية والبحثية في الولايات المتحدة، وحُظيت بشهرة كبيرة بحكم ما يفترض فيها من قدرة على استشراف المستقبل، وبحث في الاحتمالات المتعددة للمقبل من الأيام. وتقوم هذه الدراسات عادة على صياغة فرضيات، أو تطورات محتملة وفقاً لوضع معين من خلال رواية للأحداث تتفرع عنها مع تقدم التحليل مجموعة من النقاط التي بدورها تصل إلى خلاصات محددة بعد استبعاد النقاط والاحتمالات غير الراجحة والاحتفاظ بتلك الأكثر رجحاناً. واللافت أن بعض الأكاديميين والخبراء الذين أخذوا على عاتقهم التنبؤ بأحداث المستقبل والاعتماد في ذلك على معطيات الحاضر لرسم سيناريوهات متنوعة لما ستأتي به الأيام من مفاجآت قد لا تكون سارة في كل الأحوال، غالباً ما يضعون تصورات متفائلة إلى حد المبالغة، وحتى في حال إشارتهم إلى المخاطر الثاوية في ثنايا المستقبل، فإنهم قد يفعلون ذلك فقط لتأكيد وجهات نظرهم وإضفاء الشرعية على طروحاتهم كأن يحذروا من خطر معين يستدعي من السلطات القائمة اتخاذ إجراءات احترازية تندرج في إطار الالتزامات السياسية والمهنية للمحلل المستشرف للمستقبل. فلو كان الأكاديمي على سبيل المثال من الداعين إلى إقامة منظومة صاروخية متطورة، فإنه سيشير في معرض تحليله المستقبلي إلى التهديد الصاروخي المحدق بالولايات المتحدة والحاجة إلى تفادي هجوم محتمل على الأراضي الأميركية بصناعة المزيد من الصواريخ الباليستية المضادة. وفيما عدا الانحيازات الأيديولوجية والاصطفافات الحزبية التي تلون في كثير من الأحيان التحليلات المستقبلية بألوانها الخاصة، وتنال من الاستقلالية المفترض توافرها في بحوث استشراف المستقبل، وبما يحول دون تهويل الأخطار أو التهوين من حدتها، تبرز مشكلة أخرى في الدراسات المستقبلية نفسها، وتتمثل في انعدام الخيال في التفكير والارتهان إلى المقولات التقليدية والمستهلكة. فلو سألت معظم المحللين اليوم عن الخريطة الجيوسياسية للمستقبل، فإن الجواب يكاد ينحصر في الصعود الصيني المدوي على الساحة العالمية، والتهديد الذي بات يمثله بالنسبة للمصالح الأميركية في العالم، أو التحذير من العودة الروسية المتنامية على المسرح الدولي، ليعيدنا كل ذلك مجدداً إلى أجواء الحرب الباردة. وإذا استبعدنا هذه السيناريوهات التي لا تخلو منها الكتب والمقالات، فإننا سنكون أمام التزايد الكبير للهجمات الانتحارية باعتبارها الخطر الذي يتهددنا في المستقبل، فعلى سبيل المثال يذهب أحد السيناريوهات إلى احتمال حصول "القاعدة" على أسلحة نووية وشن هجوم على أميركا. أما أغرب السيناريوهات وأكثرها شططاً، فهو ذلك الذي روج له "المحافظون الجدد" في وقت من الأوقات وحذروا فيه من اختراق الإرهابيين للأقليات المسلمة في بلدان أوروبا الغربية وتحريضها على الانتفاض على دولها والإطاحة بالحكومات لإقامة "خلافة إسلامية" تشمل جميع أوروبا الغربية وآسيا الوسطى والجنوبية لتبقى أميركا وحدها معزولة ومهددة. ومن المفارقة أن هذه "المخاطر" وغيرها التي يُزعم أنها تهدد الأمن القومي الأميركي غالباً ما تُصور مع ذلك على أنها ضمن حدود السيطرة، على اعتبار أن الولايات المتحدة بإمكاناتها العسكرية والاقتصادية الكبيرة قادرة على التعامل مع هذه الأخطار وتجاوزها. ولئن كان هذا الطرح المغالي في ثقته بالقدرات الأميركية صحيحاً على الأقل في بعده العسكري إذا تذكرنا الإمكانات التدميرية للولايات المتحدة، إلا أن التدمير يختلف عن التعامل والاحتواء. ولننظر قليلاً إلى الوضع في العراق حتى تتضح المفارقة الأميركية، ففي العراق يوجد حالياً ما لا يقل عن 130 ألف جندي أميركي يُتوقع أن ينسحب أغلبهم في غضون سنة ونصف سنة، وبالموازاة مع ذلك هناك حالياً احتمال ضئيل، لكنه قائم بأن تشن إسرائيل حملة عسكرية تستهدف المواقع النووية الإيرانية، وهي حملة رفضتها واشنطن بسبب الرد الإيراني المحتمل ضد القوات الأميركية المرابطة في العراق وضد الخطوط اللوجستية لتلك القوات، بل إن ذلك قد يترافق مع عمليات تقوم بها إيران في مياه الخليج وبحر العرب لمنع وصول السفن والبوارج الأميركية لإخلاء العراق من القوات الأميركية. وبانتقالنا إلى الحرب الأميركية الأخرى في أفغانستان علينا أن نفكر في احتمال أن يزود أحدهم "طالبان" بصواريخ أرض- جو على غرار ما قامت به الولايات المتحدة تجاه المجاهدين المناهضين لروسيا خلال الاحتلال السوفييتي، وهي الأسلحة التي من شأنها إسقاط الطائرات المروحية الأميركية وتعطيل التغطية الضرورية للقوات البرية. ولنفترض في هذا السياق أيضاً أن روسيا ألغت اتفاقيتها مع الولايات المتحدة التي تسمح للقوات الأميركية وقوات حلف شمال الأطلسي بنقل المؤن إلى الجنود في أفغانستان مروراً بمجالها الجوي، أو استخدام أراضي دول آسيا الوسطى. وماذا لو تأثرت قوة الحكومة الباكستانية بسبب هجمات "طالبان" وانتشار الاضطرابات في بعض المناطق مثل بلوشستان لتتعطل خطوط الإمدادات الأميركية الجنوبية والشرقية المتوجهة إلى أفغانستان، ففي تلك الحالة لن يختلف مصير قوات أميركا في أفغانستان عن قواتها في العراق بعد قطع طرق الإمدادات والمحاصرة. ومع أن المسؤولين العسكريين والخبراء الاستراتيجيين لا بد أنهم درسوا مثل هذه الاحتمالات القاتمة وأخذوها في الحسبان عند وضعهم لخططهم، إلا أن الخلاصة النهائية لهذا التحليل هي أنه كلما خاضت أميركا المزيد من الحروب وأرسلت قواتها إلى الخارج وأقامت العديد من القواعد العسكرية حول العالم كلما أصبحت أقل أمناً وأكثر عرضة للتهديد. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "ميديا تريبيون سيرفيس"