هناك إجماع بين الباحثين على أن الإرهاب أصبح ظاهرة عالمية. صحيح أن العالم -في عصر الحرب الباردة- شهد جماعات إرهابية متعددة مثل "الألوية الحمراء" في إيطاليا، وجماعة "بادر ماينهوف" في ألمانيا، بالإضافة إلى شبكات إرهاب متعددة في آسيا وفي العالم العربي والإسلامي. غير أن هذه الجماعات الإرهابية كانت تحصر إرهابها في إطار جغرافي محدد لا تتعداه. غير أن الظاهرة تطورت من بعد وأصبح الإرهاب عابراً للحدود. ولعل الأحداث الإرهابية التي وجهت ضد مراكز القوة الأميركية المالية والسياسية والعسكرية في 11 سبتمبر، تُعد رمزاً على هذا التحول البالغ الخطورة. وإذا كان الرئيس السابق جورج بوش قد أعلن حربه ضد الإرهاب، وهي حرب في تعريفه لا يحدها زمان أو مكان، إلا أنه يمكن القول إن كافة الدول أحست بخطورة هذا الإرهاب المعولم، ومن ثم صاغت سياسات متعددة لمواجهته. ويمكن القول إن ظاهرة الإرهاب وانتشارها عبر القارات أكدت بما لا يدع مجالًا للشك نظرية "مجتمع الخطر"، التي صاغها عالم الاجتماع الألماني إيرليشن بك، والتي هي لصيقة الصلة ببروز ظاهرة العولمة. وقد قرر عالم الاجتماع البريطاني المشهور أنطوني جيدنجز أن "العولمة تؤدي إلى نتائج بعيدة المدى، وتترك آثارها على جوانب الحياة الاجتماعية جميعها تقريباً. غير أنها باعتبارها عملية مفتوحة متناقضة العناصر، تسفر عن مخرجات يصعب التكهن بها أو السيطرة عليها. وبوسعنا دراسة هذه الظاهرة من زاوية ما تنطوي عليه من مخاطر. فكثير من التغييرات الناجمة عن العولمة تطرح علينا أشكالاً جديدة من الخطر، تختلف اختلافاً بيناً عما ألفناه في العصور السابقة. لقد كانت أوجه الخطر في الماضي معروفة الأسباب والنتائج، أما مخاطر اليوم فهي من النوع الذي يتعذر علينا أن نعدد مصادره وأسبابه، أو نتحكم في عواقبه اللاحقة. وهذا التوجه يجد مصداقاً له في مخاطر الإرهاب العالمي، الذي يصعب في بعض الأحيان رده إلى أسباب محددة وواضحة، أو السيطرة على آثاره المدمرة. وقد عنيت مختلف الدول بصياغة سياسات متعددة لمواجهة الإرهاب، غير أنه يمكن القول إن أبرز هذه السياسات هي المواجهة القانونية للإرهاب، والتي تأخذ في التطبيق مسارات شتى حسب نوعية النظام القانوني السائد، وتطورات القانون الدولي العام في الوقت نفسه. غير أنه يمكن القول إنه إذا كانت المواجهة القانونية للإرهاب ينبغي أن تحظى بعظيم الاهتمام لأنه لا بديل عن قواعد القانون الرادعة في مواجهة الظاهرة، إلا أنها لا تكفي بذاتها. وذلك لأن الإرهاب يجد مرتعه في شيوع أنواع شتى من الفكر المتطرف يمينياً كان أو يسارياً، وضعياً أو دينياً. وهذا الفكر المتطرف هو الذي ينفذ إلى عقول أفراد الجماعات الإرهابية الذين يتم تجنيدهم من فئة الشباب خصوصاً، لكي يدفعهم من بعد للتسليم بصحة مسلمات هذا الفكر الذي يدعو للانقلاب على الدولة، أو يوجه ضرباته لدول أجنبية، كما حدث من قبل تنظيم "القاعدة" في الحوادث الإرهابية ضد الولايات المتحدة الأميركية. ومعنى ذلك أننا نحتاج إلى تحليل ثقافي لظاهرة الإرهاب، لكي نحدد منابع الفكر المتطرف ونوعية العناصر التي تجتذبها الجماعات الإرهابية، بالإضافة إلى تشريح الخطاب الإرهابي للكشف عن زيف مسلماته وبطلان نتائجه، وإعلان ذلك للرأي العام بمختلف الوسائل الإعلامية، باعتبار ذلك إحدى الخطوات المهمة في صياغة سياسة ثقافية لمواجهة الإرهاب. غير أن كلاً من المواجهة القانونية والمواجهة الثقافية لا تكفي لتحدي ظاهرة الإرهاب. وذلك لسبب بسيط مؤداه أننا نعيش النقلة الحضارية الكبرى من نموذج المجتمع الصناعي إلى نموذج مجتمع المعلومات العالمي. ومعنى هذا أن آلاف التفاعلات السياسية والاجتماعية والثقافية أصبحت تدور ليس في المجتمع الواقعي، ولكن في العالم الافتراضي. ولا بد من التعمق في معرفة أدوات هذا العالم الافتراضي، لكي نستعين بها فيما يمكن أن نطلق عليه المواجهة المعلوماتية للإرهاب. ولنبدأ الحديث أولًا عن المواجهة القانونية للإرهاب. وفي هذا الصدد، نظم "اتحاد كتاب مصر" ندوة مهمة في 28 يوليو 2009 لتقديم وعرض الكتاب المهم الذي ألفه في الموضوع أستاذ القانون الجنائي المعروف الدكتور أحمد فتحي سرور، الذي يشغل منصب رئيس مجلس الشعب المصري. وقد دعيت في هذه الندوة لكي أقدم رؤية نقدية للكتاب. وقد انطلقت في قراءتي النقدية للكتاب من منهجية التحليل الثقافي، التي تقوم على تضافر المناهج في كل العلوم الاجتماعية المعاصرة، لفهم وتحليل وتفسير الظواهر المتعددة. وركزت في هذا المجال على تحولات المجتمع العالمي التي رصدتها بدقة في كتابي الذي صدر مؤخراً وعنوانه "شبكة الحضارة المعرفية: من المجتمع الواقعي إلى الفضاء المعلوماتي". وقد حددت خمسة تحولات رئيسية، هي الانتقال من نموذج المجتمع الصناعي إلى نموذج مجتمع المعلومات العالمي، والتحول من الحداثة إلى العولمة، ومن الأمن النسبي إلى مجتمع المخاطرة العالمي، وأخيراً سقوط النموذج القديم للأمن القومي وصعود نموذج جديد هو الأمن القومي المعلوماتي. وهذا التحول الأخير يقوم على نموذج جديد للأمن القومي يعتمد على مفهومين: الحروب الفضائية Cyberwar وحرب الشبكات Network. والحروب الفضائية تعتمد على أحدث التقنيات التي يصمم على أساسها ما يسمى بـ"القنابل الذكية" التي تطلق من على بعد آلاف الكيلومترات ضد هدف محدد فتصيبه بدقة بالغة. أما حرب الشبكات، فتتمثل في الصراعات التي تقودها المعلومات على مستوى كبير بين الأمم والمجتمعات. وهي تنحو أحياناً إلى محاولة تخريب ما يعتقد سكان بلد ما أنهم يعرفونه عن أنفسهم وعن العالم. وقد تركز حرب الشبكات على آراء النخبة أو على آراء الجماهير أو عليهما معاً. وقد تتضمن الممارسات الدبلوماسية، و"البروباجندا" والحروب النفسية، والتخريب السياسي والثقافي والخداع والتشويش على "الميديا" المحلية، والتسلل إلى شبكات الكمبيوتر وقواعد البيانات لتخريبها، ومحاولة تدعيم الجماعات المنشقة أو المعارضة في بلد ما من خلال شبكات الكمبيوتر. وتستخدم الجماعات المتطرفة والإرهابية حرب الشبكات لكي تتجاوز الحدود القومية وتنظم نفسها باعتبارها جماعات عابرة للقارات، وأبرز مثال على ذلك تنظيم "القاعدة". والسؤال المثار الآن هو: في مواجهة حرب الشبكات التي تمارسها باقتدار الجماعات الإرهابية، ما هي أساليب المواجهة المعلوماتية التي لا تقل أهمية عن أساليب المواجهة القانونية والثقافية؟ من خلال الممارسة تبين أن الأسلوب الأمثل للمواجهة المعلوماتية، يتمثل في إنشاء مراكز بحوث معلوماتية، تضم قاعدة بيانات متكاملة عن الجماعات الإرهابية. ولعل النموذج الأمثل لهذه المراكز المعلوماتية هو "المركز العربي للبحوث والدراسات" الذي أسسه في القاهرة "عبدالرحيم علي" الباحث في مجال الحركات الإسلامية، والذي أصدر عشرات الكتب الموثقة عن مختلف الجماعات الإرهابية التي أصبحت مراجع أساسية في المكتبة العربية المعاصرة. وتتمثل أنشطة المركز في إعداد ونشر البحوث والدراسات حول ظاهرة الإسلام السياسي، وتنظيم الدورات التدريبية، وإقامة الندوات، وعقد المؤتمرات، وتقديم الاستشارات لكافة الهيئات. وهذا المركز يضم قاعدة بيانات على أعلى مستوى عالمي، يندر وجودها في أي مكان. وعلى سبيل المثال، إذا كان الباحث مهتماً بدراسة وتحليل مختلف أحداث العنف التي قامت بها جماعة "الإخوان المسلمين" مثلاً، فإنه يستطيع بضغطة على مفتاح الكمبيوتر أن يجد كافة هذه الأحداث، حتى التي وقعت منذ أكثر من خمسين عاماً. ومثال ذلك ما عرف باسم قضية "السيارة" الجيب التي وقعت أحداثها في 21/11/1948 وبلغ عدد المتهمين فيها 32 متهماً، وستجد وصف الحدث وأسماء المتهمين والأحكام التي صدرت عليهم يوم 17/3/1951، بالإضافة إلى تقييم الحدث. والواقع أن "المركز العربي للبحوث والدراسات" في القاهرة، يعد إنجازاً علمياً وحضارياً بالغ الأهمية؛ لأنه -في مجال المواجهة المعلوماتية للإرهاب- استطاع أن يتقن لغة العصر، ويوظفها من أجل فهم وتحليل ومواجهة الظاهرة الإرهابية التي تهدد السلام العالمي.