الفارق في وضع التعليم العالي في العراق بعد الاحتلال أنه كان موعوداً بالحصول على مليار دولار، وأصبح بعد إعلان السيادة في الشهر الماضي مطالباً بدفع مليار دولار. وإذا كان من سوء حظ التعليم العالي آنذاك عدم حصوله على المليار، فإن من حسن حظه الآن أنه لا يملك ملياراً يعطيه. وهذه ليست المفارقة الوحيدة في "المبادرة التعليمية" التي أطلقها رئيس الوزراء العراقي خلال زيارته إلى واشنطن في الشهر الماضي. المفارقة الثانية، ولا أعلم إن كانت لحسن حظ التعليم العالي في العراق، كثرة الجهات الأكاديمية التي تتنافس على صفقة المليار دولار. البيان الصادر عن مجلس الوزراء العراقي في اختتام الزيارة لم يحدد الجهة التي وقع المالكي معها مذكرة التعاون، لكنه ذكر أن حفل التوقيع جرى في "مؤسسة التطوير التعليمي والأكاديمي" في واشنطن، بحضور أعضاء الوفد العراقي، وحاكم ولاية "أوهايو". وأورد البيان قول المالكي: "نؤكد من هذا المكان رغبة العراقيين في التعليم وفق السياقات العلمية المتطورة في جامعة أوهايو والجامعات الأخرى". وادّعى بيان صادر من "جامعة أوهايو" حصولها على ثلث مجموع الطلبة العراقيين المرسلين للدراسة في الخارج في هذه السنة والسنوات اللاحقة. وتدشن "المبادرة التعليمية" عملها في العام الدراسي الجديد 2009-2010 بإرسال عشرة آلاف طالب عراقي للدراسات العليا في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا تدفع نفقاتهم بالكامل الحكومة العراقية. ويعقب ذلك إرسال عشرة آلاف طالب عراقي سنوياً خلال السنوات الخمس المقبلة إلى الدول الأربع المذكورة، تدفع نفقاتهم أيضاً بالكامل الحكومة العراقية. ويُفترض وفق هذه المحاصصة الدولية توزيع الثلثين الباقيين من الطلبة العراقيين على أعضاء "الكونسوريوم" الأميركي البريطاني الآخرين البالغ عددهم أكثر من أربعين جامعة. ما حصة جامعات كندا وأستراليا المذكورين في البيانات، وجامعات فرنسا واليابان التي يرد ذكرها في بيانات أخرى؟ وهل تكفي فترة شهرين أو ثلاثة لبدء العام الدارسي الجديد لاختيار وإعداد طلبة يحظون بمزايا التفوق والموهبة التي تتطلبها الجامعات العالمية؟ أسئلة مستحيلة من هذا القبيل تدل على أن "المبادرة التعليمية" لم يلدها التعليم العالي في العراق، بل الجامعات الغربية والأميركية خصوصاً، التي تعاني أزمة مالية خانقة. فـ"جامعة هارفرد"، التي تعتبر أغنى الجامعات الأميركية لجأت بسبب خسارة 22 في المئة من قيمة احتياطياتها المالية البالغة نحو 37 مليار دولار إلى استقطاعات كبيرة في موازنات كلياتها وأقسامها المختلفة، وأعلنت مع "برنستون" وغيرها من جامعات النخبة الخاصة عن خفض كبير في أجورها الدراسية التي تبلغ 45 ألف دولار سنوياً، وعرضت بعض مقاعدها الدراسية مجاناً. وبسبب ذلك أيضاً ألغت مجموعة الجامعات الحكومية في ولاية كاليفورنيا عشرة آلاف زمالة دراسية. ومن هذا الجانب، فالمبادرة التعليمية كجميع المبادرات، التي طرحت بعد الاحتلال، وكالاحتلال نفسه، ولدت في رحم الأزمة المالية. أساليب التسويق الحمقاء نفسها، وأحياناً نفس الجهات، والشركات، والأشخاص الذين سوّقوا مشاريع الاحتلال الفاشلة الواحدة بعد الأخرى. وتقل "المبادرة التعليمية" مالاً وعلماً عن مبادرة مؤتمر الدول المانحة للعراق، التي أطلقها مؤتمر مدريد في أعقاب الاحتلال مباشرة. فقد بلغت الموازنة المقترحة لتلك المبادرة نحو المليار وربع المليار دولار، ونصّت على تخصيص 270 مليون دولار لإعادة بناء الهياكل الارتكازية للجامعات العراقية، و200 مليون لإصلاح المناهج والموارد التدريسية، و50 مليوناً للمساعدة في بناء كليات خاصة لتدريس إدارة الأعمال وإعداد المديرين التنفيذيين. وخُصص القسم الأكبر من المشروع وقدره 690 مليون دولار لما سُمي "إحياء الحياة الفكرية للجامعات العراقية والوصول بكلياتها وطلابها إلى مستوى دولي مرموق"! لقد مرت ست سنوات على مبادرة مدريد التي كان ينبغي تنفيذها خلال ثلاث أو خمس سنوات. والعمر قصير وذاكرة العلماء طويلة. ولو كان الرئيس الأميركي جاداً في تعهده بإنهاء الاحتلال فليسمح بتحويل السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء إلى جامعة عراقية. هذه المبادرة الجريئة ستحول رمز الاحتلال العسكري إلى رمز الإرادة الطيبة في إعادة إعمار العراق. وقد دعا إلى ذلك العالم العراقي الأميركي عادل شمو، الأستاذ في كلية الطب في جامعة ميريلاند بالولايات المتحدة. وقال شمو في رسالة منشورة قبيل انتخاب أوبامو في صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" إن تحويل السفارة التي كلف بناؤها نحو 700 مليون دولار إلى جامعة عراقية أميركية سيحقق خطوة عملاقة في المصالحة مع العراق. ومن يلوم العلماء على غضبهم عند عرض "المبادرة التعليمية" في "مؤتمر الأكاديميين العراقيين" الذي عقدته "الدائرة الثقافية" في السفارة العراقية في واشنطن في الربيع الماضي؟ قال عنها قيس الأوقاتي، الذي يشغل كرسي أستاذ الطب في "جامعة كولومبيا" بنيويورك: "كان من الأفضل تماماً إنفاق هذه الأموال على بناء الجامعات في العراق". وذكر الأوقاتي المعروف عالمياً باكتشافاته في ميدان "الخلايا الجذعية" أن "المشكلة الحقيقية للجامعات العراقية تعود إلى فقدان عدد كبير من الهيئات التدريسية بسبب الوضع الأمني". وأضاف "مع ذلك يأتون بفكرة القيام بعمل جيد عن طريق إعطاء الجامعات الأميركية الأموال"! مستطرداً: "هذه فكرة حمقاء، فالأموال التي يجري الحديث عنها بالملايين. وهم، أولاً لا يملكون هذه الأموال، وثانياً كان عليهم إنفاقها لبناء الهيئات التدريسية العراقية". وكان مؤتمر واشنطن قد افتتح أعماله بجلسة عنوانها "كيف يمكننا مساعدة المؤسسات الأكاديمية العراقية"؟ وتركزت المداخلات على البحث عن مشاركة العلماء المغتربين في تطوير المناهج في الجامعات العراقية، والحيلولة دون تحول "المبادرة التعليمية" إلى قناة مدعمة لنزوح الأدمغة العراقية الجديدة. ويعرف العلماء المغتربون أفضل من غيرهم عدم جدوى التعهدات المالية التي تلزم طلبة البعثات بالعودة إذا لم تنفق الملايين لبناء جامعات يرغبون بالعودة إليها. و"أفضل شيء يمكننا فعله هو أن نفعل العلم هناك في العراق". قال ذلك صالح الوكيل، أستاذ ورئيس قسم الكيمياء الحيوية والجزيئية في كلية الطب "بيلور كوليج"، وعضو "الأكاديمية الوطنية للعلوم" في الولايات المتحدة. هل يبرر تفاقم سوء الأوضاع الأكاديمية في العراق لجوء الحكومة إلى أسلوب "المفتاح باليد" المسؤول عن هدر ما يعادل التريليون دولار من الثروات العربية في القرن الماضي؟ إن تكلفة هدر الثروات البشرية أسوأ من ذلك، وعواقبه أبعد بكثير. وقد أثارت "المبادرة التعليمية" بسب ذلك استياء حتى أكاديميين عراقيين تعاونوا مع النظام القائم. محمد الربيعي، أستاذ علوم الأحياء في "جامعة دبلن" في ايرلندا عرض في رسالة احتجاج قوية منشورة بـ"الإنترنت" محنة "الآلاف من التدريسيين في الجامعات العراقية ممن يحتاج إلى تدريب وإعادة تدريب في الجامعات الغربية بسبب العزلة العلمية التي مر بها العراق بسبب الحروب والحصار". وتساءل الربيعي عما إذا كان إرسال طلبة للحصول على شهادات عالية هو أفضل من إعادة تدريب هؤلاء، وإرسالهم للحصول على شهادات عالية كالدبلوم العالي والماجستير أو الدكتوراه، حتى وإن كانوا قد حصلوا على مثلها في الماضي؟