عندما اندلعت أزمة الانتخابات الرئاسية الإيرانية، التي أُجريت في 12 يونيو الماضي، اختلف المعنيون والمراقبون في تقدير حجمها والنتائج التي يمكن أن تسفر عنها. فكان هناك من اعتبروها أزمة عابرة لن تلبث أن تنتهي دون أن تترك أثراً، ومن رأوا فيها فورة لحظية للتنفيس عن كبت سياسي واجتماعي. ولكن كان هناك، أيضاً، من نظروا إليها بوصفها حلقة من حلقات الاحتجاج في مجتمع يزداد الانقسام فيه جيلياً وثقافياً واجتماعياً، على نحو يجعله مختلفاً عن ذلك الذي ارتضى في العام 1979 حكماً دينياً للخلاص من ظلم دنيوي "شاهنشاهي". وبين هؤلاء، الذين فهموا أزمة الانتخابات الرئاسية الإيرانية على هذا النحو، من اعتبروها أزمة هيكلية أو بنائية أي تتعلق ببنية النظام السياسي الذي أصبح عاجزاً عن استيعاب أعداد متزايدة من الإيرانيين في مختلف شرائح المجتمع، وبصفة خاصة في الأجيال الأحدث والشرائح الأكثر تعليماً وثقافة ودخلاً. وهؤلاء هم الذين يبدو تقديرهم أكثر صواباً اليوم، بعد ما يقرب من شهرين على بدء الأزمة. فلا يمكن أن تكون عابرة الأزمة التي تستمر طوال هذه الفترة بلا حل يمكن التوافق عليه، بالرغم من القمع الذي لجأت إليه الحكومة مستندة على مساندة المؤسسة العسكرية – الأمنية وتأييد المرشد الأعلى. وإذا صح أن إيران ليست في أزمة عابرة، وأنها ربما تكون قد دخلت في أزمة ممتدة، لا بد أن يكون السؤال المحوري هو عن آثارها المحتملة فيما يتجاوز المدى القصير، ويتخطى بالتالي تعبيراتها المباشرة ممثلة في الاحتجاجات بأشكالها المختلفة على الأرض، التي لا تتسع إلا للقليل منها، وفي فضاء "الإنترنت" الرحب الذي لا تحده حدود. فالاحتجاجات المباشرة في الشارع لا يمكن أن تستمر. فالقمع يغلق المجال العام أمامها، حتى إذا أخذت شكل تأبين بعض الضحايا الذين سقطوا خلال التظاهرات وإبداء الحزن عليهم، على نحو ما حدث يوم الخميس الماضي. كما أن الظرف الموضوعي لا يسمح بتصاعدها في ظل انقسام عميق في المجتمع نفسه. أما الفضاء "الإنترنتي" المفتوح فهو لا يكفي لإحداث أثر كبير إلا إذا أصبح أداة من أدوات حركة إصلاحية كبيرة أو قابلة لأن تكبر، ولم يبق مجرد وسيلة للتعبير عن الاحتجاج وكشف الملاحقات التي يتعرض لها الإصلاحيون. ولذلك يجوز القول إن تأثير الأزمة التي ارتبطت بالانتخابات الرئاسية على مستقبل إيران يتوقف على إمكان بناء جبهة إصلاحية كبيرة تضم الأحزاب والجمعيات والحركات والشخصيات التي تتطلع إلى نظام سياسي أكثر انفتاحاً وإلى سياسة خارجية أكثر عقلانية. وبالرغم من أن المعرفة الدقيقة بحال المجتمع الإيراني اليوم، فثمة ما يفيد أن مثل هذه الجبهة يمكن أن تتمتع بتأييد قاعدة عريضة تعد بالملايين، سواء ضمت كل من اقترعوا للمرشح الإصلاحي حسين موسوي أو جزءاً كبيراً منهم. وبعد ثلاثين عاماً على قيام ثورة الخميني، أصبح المجتمع أكثر شباباً من حيث تركيبه العمري. كما صار قسم يُعتد به في هذا المجتمع أكثر ميلاً إلى الانفتاح، وأشد ضيقاً بالقيود الاجتماعية والثقافية وبالقوالب التي يوضع فيها الناس في حياتهم الخاصة وليس فقط على المستوى العام. ولا يعني ذلك أن هذا القسم الآخذ في الازدياد أصبح أقل تديناً، بخلاف ما يذهب إليه بعض الأكاديميين والإعلاميين الغربيين. فالأكيد أن البعض صار أقل تديناً من باب التمرد على الجبر والإكراه، مثلما حدث في تركيا على نطاق أوسع ولكن في اتجاه معاكس إذ أدى الإفراط في علمنة المجتمع وليس فقط النظام السياسي إلى رد فعل ذي طابع ديني. غير أنه يصعب القول إن كل الإيرانيين الذين يريدون الإصلاح، واقترعوا للمرشحين موسوي ومهدي كروبي، غير متدينين. وربما يكون الأقرب إلى الصواب القول إن أغلبهم متدينون، ولكنهم يرفضون القهر باسم الدين ويعترضون على المركزية المفرطة للسلطة الدينية على نحو قد لا ينسجم في كل الأحوال مع التعددية التي يقوم عليها مذهبهم فيما يتعلق بتقليد المراجع والاجتهاد. وبالرغم من صعوبة قياس التغير الذي يحدث في المجتمع في هذا الاتجاه بشكل منهجي منظَّم، يصبح السبيل الوحيد إلى معرفته هو الاستطلاعات غير الرسمية التي تجريها بعض مراكز الأبحاث الأميركية والأوروبية عبر "الإنترنت"، أو التي يخاطر بعض المراسلين الإعلاميين بإجرائها بشكل غير مباشر في سياق عملهم الأساسي. وهي كلها تعتمد على عينات عشوائية لا تعطي نتائج موثوقاً فيها، وإنما تقدم مؤشرات تفيد بأن هناك ازدياداً في نسبة الإيرانيين الذين يتطلعون إلى انفتاح ثقافي واجتماعي. ولذلك ربما يكون الظرف الموضوعي المتعلق بحال المجتمع الإيراني مهيأ إلى حد كبير لبناء جبهة إصلاحية تحظى بدرجات متفاوتة من المساندة والتعاطف من جانب قسم واسع في هذا المجتمع. وبالرغم من أن هذا القسم ليس أغلبية في المجتمع الإيراني حتى الآن، فهو يتميز بأن بعض شرائحه أكثر حركية (ديناميكية) وأوفر قدرة على التعبير عن نفسه وآماله ونظرته إلى المستقبل. ولكن الظرف الموضوعي لا يكفي حين لا يكون العامل الذاتي جاهزاً بسبب تشتت "الإصلاحيين" بين عدد كبير من فلا يخفى أن "الإصلاحيين" في إيران ينتمون إلى اتجاهات مختلفة، وبعضها متناقض. فإذا وضعناهم على متصل Continum، سيكون "الليبراليون" الأقرب إلى العلمانية في أحد طرفيه والإصلاحيون الوسطيون المؤمنون بولاية فقيه واحد في طرفه الآخر. وبين هذين الطرفين اتجاهات شتى تضم ضمن ما تضمه "ليبراليين" متدينين ودينيين لا يؤمنون بولاية الفقيه وآخرين مع ولاية فقيه ملزم بالتشاور مع مؤسسات الدولة قبل اتخاذ القرارات الكبرى. كما تشمل من يؤمنون بولاية مجمع فقهاء، وليس فقيهاً وحيداً. ومن الطبيعي أن تهبط هذه الخلافات تحت السطح حين تنشب أزمة هيكلية من نوع أزمة الانتخابات الرئاسية. ولكنها لن تلبث أن تظهر مجدداً كلما توارت المظاهر المباشرة لهذه الأزمة. ولذلك، فإذا أراد "الإصلاحيون" أن يواصلوا المعركة التي فتحتها أزمة هي بطابعها ممتدة، وأن يديروها على نحو يعزز مركزهم تدريجياً إلى أن يحل موعد الانتخابات القادمة البرلمانية ثم الرئاسية، فعليهم التحرك باتجاه التوافق على برنامج حد أدنى يجمع علمانيين ورجال دين أسسوا الجمهورية الإسلامية، وكانوا ذات يوم "خُمينيين" حتى النخاع مثل الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني وآخرين لا يستطيع العمل الإصلاحي الاستغناء عنهم في المرحلة المقبلة إذا أُريد له أن يكون مؤثراً في صنع إيران المستقبل. وبناء جبهة، أو أي إطار جامع، على أساس برنامج حد أدنى هو السبيل الوحيد إلى جمع "الإصلاحيين" بأطيافهم المختلفة، والمتناقض بعضها، في عمل مشترك يتجاوز الخلافات بينهم ويعطيهم ميزة نسبية كبرى على خصومهم الذين يبدو التوفيق بينهم أكثر صعوبة لأسباب أهمها أن امتلاكهم السلطة الدينية والزمنية في مختلف تفاصيلها من المرشد الأعلى إلى رئيس الجمهورية والسلطة التنفيذية ومروراً بالسلطة القضائية وأغلبية البرلمان (مجلس الشورى)، يجعلهم في وضع أقوى. ولا يخلو هذا التنوع من تناقضات سيغذيها ازدياد نفوذ الحرس الثوري، والمؤسسة العسكرية – الأمنية عموماً، على حساب رجال الدين في جمهورية إسلامية يعتبر هؤلاء أحد مصادر شرعيتها. وقد تظهر تناقضات أخرى في الفترة المقبلة إذا تبين أن سلوك نجاد خلال مشكلة تعيينه صهره اسفنديار رحيم مشائي معاوناً أولاً له يدل على أنه بدأ يشعر بقوة زائدة قد تدفعه إلى محاولة الإفلات تدريجياً من تبعيته النظامية والشخصية إلى المرشد الأعلى الذي تبناه على نحو غير مسبوق في العلاقة بين الموقعين. فقد ماطل نجاد لنحو أسبوع قبل الاستجابة إلى أمر خامنئي وإلغاء قرار تعيين مشائي، الذي يثير حفيظة قطاع واسع في أوساط المحافظين بسبب تصريح أدلى به في العام الماضي، واعتبر فيه الشعبين الإسرائيلي والأميركي صديقين للشعب الإيراني. ولوحظ أن الرئاسة الإيرانية نشرت قرار تعيين مشائي وثلاثة معاونين آخرين لرئيس الجمهورية بعد إعلان المرشد الأعلى اعتراضه، الأمر الذي أثار غضباً لم يقتصر على التيارات المحافظة المعروفة باختلافها مع شخص نجاد وسياساته الاقتصادية الأساسية الأقرب إلى الاقتصاد الموجه منها إلى اقتصاد السوق. والأرجح أن سياسة نجاد، وسلوكه السياسي بشكل عام، سيثيران خلافات أكبر في أوساط القوى المحافظة على نحو قد يزيد التناقضات الثانوية بينها، وربما يصبح بعضها من نوع التناقض الرئيسي في الفترة القادمة. ولذلك، قد يكون في إمكان الإصلاحيين استثمار هذه التناقضات في صفوف خصومهم، سعياً إلى إرساء معادلة جديدة للسلطة، إذا نجحوا في تحقيق توافق عام بينهم يسمح ببناء جبهة إصلاحية: جبهة إيران المستقبل.