في صباح كل يوم تقريباً، تستيقظ الأمة البريطانية على أنباء مفجعة تذيعها هيئة "البي. بي. سي" عن مصرع المزيد من جنودنا المقاتلين في محافظة هلمند الأفغانية. وقد شهدت الأسابيع الستة الماضية وحدها مقتل 23 منهم هناك. ومع عودة جثث أي من الجنود القتلى، يصطف آلاف البريطانيين تقديراً لبسالتهم وتضحياتهم، بينما يزداد نقد الصحف لضعف العتاد الحربي المتوافر لجنودنا في ميادين القتال، وتزداد معه مواجهة الوزراء للاستجوابات الحادة والعنيفة بخصوص هذا النقص المزعوم في العتاد الحربي، بل عن مدى جدوى العمليات الجارية في أفغانستان نفسها، والتقدم الذي تحرزه ضد عناصر "طالبان" وتنظيم "القاعدة". يذكر أن الشعب البريطاني ظل يستشعر نوعاً ما من الضيق والحرج خلال السنوات القليلة الماضية، إزاء تورط بلاده في خوض حربين متزامنتين في كل من العراق وأفغانستان. وبدافع ذلك الحرج، كثيراً ما نظر إلى الحرب العراقية باعتبارها حرباً مشينة سيئة، على عكس الحرب الأفغانية التي لم يكن ثمة جدال على أهميتها وجدواها في مواجهة الخطر الجدي الذي تمثله حركة "طالبان" وحليفها تنظيم "القاعدة" هناك. والآن بلغت هذه الحرب مرحلة جدية وخطيرة للغاية. إلا أن البريطانيين لم يعودوا يقارنون بينها والعراق، إنما يقارنونها بحرب جزر فوكلاند. ففي هذه الحرب الأخيرة التي دارت في عام 1982، بدت بريطانيا طرفاً مرجحاً ومنتصراً عسكرياً. وعلى نقيضها اليوم، وعلى إثر مضي ما يقارب الثماني سنوات على اندلاع الحرب الأفغانية في عام 2001، بدت بريطانيا أكثر تردداً من أي وقت مضى بين أن تواصل بقاءها في خطوط النار الأمامية هناك، أو أن تنسحب منها على رغم أن قواتها المنتشرة حالياً في محافظة هلمند تعد أكبر قوة عسكرية تنشرها بريطانيا منذ نهاية حرب جزر فوكلاند! يذكر أن قرار استعادة تلك الجزر، على إثر تعرضها للغزو الأرجنتيني في أبريل من عام 1982، كان بمثابة تحد كبير للاعتقاد السائد حينها في أوساط المحللين بأن أكبر تحد تواجهه السياسات الخارجية البريطانية هو كيفية إدارة اضمحلال هذه الدولة من قوة إمبريالية عظمى إلى قوة أوروبية متواضعة متوسطة الحجم، تجرؤ حتى الأرجنتين على التطاول عليها. لكن وبعد النصر العسكري الحاسم الذي حققه الجنود البريطانيون في جزر فوكلاند، لم تعد بريطانيا تنظر إلى نفسها من عدسة ذلك المنظور المتواضع الضيق، إنما أثبتت أنها دولة قادرة على خوض حروب تقع في أقاصي الكرة الأرضية واختطاف نصر مؤزر فيها. عندها أطلقت رئيسة الوزراء الحديدية مارجريت تاتشر مصطلح "عامل فوكلاند" على تلك العملية الحربية الناجحة، قائلة: ها قد عادت بريطانيا تارة أخرى إلى جنوبي المحيط الأطلسي. بيد أن الأصداء الإمبريالية للعملية الجارية الآن في أفغانستان تجيء مختلفة جداً، حتى صارت العبارة السائدة الآن في لغة كل صحفي بريطاني يبحث عن الكليشيهات الجاهزة هي "أفغانستان مقبرة الإمبراطوريات". وبدا في حالات كثيرة أن آخر ملامح القوة البريطانية العظمى قد بدأت بالترنح هناك. ولعل ذلك ما دفع الكثير من المعلقين والمحللين مؤخراً إلى ترديد القول: أفغانستان لا تقهر. وعليه يتساءل اليوم هؤلاء: لماذا تصر بريطانيا على الاستمرار في خوض حرب ثبتت استحالة الفوز بها حتى في أوج المجد الإمبراطوري البريطاني؟ وبالنظر إلى الإخفاقات المالية الاقتصادية التي تهز بريطانيا حالياً، مضافاً إليها عجزها عن تحقيق النصر العسكري في العراق، فربما تبدو المغامرة الأفغانية وهماً إمبراطورياً لا سبيل لتحقيقه. وفي ظل الظروف الاقتصادية الراهنة ليس ثمة حزب سياسي أو وزير بريطاني واحد يستطيع الالتزام برفع ميزانية وزارة الدفاع، رغم أن ذلك يعتبر واجباً ملحاً للغاية. والحقيقة أن هناك عدة عوامل تبرر انسحاب بريطانيا من خطوط النار الأمامية في تلك الحرب. أولها عجز داوننج ستريت عن تبرير العمليات الحربية الجارية في أفغانستان. فتارة تتحدث الحكومة عن الخطر الإرهابي، وتارة أخرى تبرر استمرار العمليات بالدفاع عن حقوق الإنسان والنساء الأفغانيات بصفة خاصة ومحاولة الدفع بعملية التحول الديمقراطي، لتعود مرة ثالثة للحديث عن الإرهاب وهكذا. وبين هذه المناورات غابت الرسالة الأساسية التي تبعث بها هذه الحرب عن الجمهور: الحيلولة دون توافر ملاذ آمن جديد لتنظيم "القاعدة" في أفغانستان، ومكافحة كل ما من شأنه أن يزيد الاضطرابات التي تشهدها باكستان. ومما زاد الطين بلة، تحدي العراق للاعتقاد السائد بأن لبريطانيا أفضل جيش على نطاق العالم كله -بما في ذلك الجيش الأميركي نفسه-عندما يتعلق الأمر بالعمليات الحربية التي تعقب النزاعات. وفي ظل ظروف كهذه، ليس من عجب أن تفضل أغلبية الجمهور البريطاني الانسحاب الفوري من الحرب الأفغانية، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار الاختلاف الجوهري بين الحوار الدائر في بريطانيا عن الحرب على الإرهاب، وما يدور في الشارع الأميركي عن الحرب نفسها. لكن وعلى رغم هذه الصعوبات والإخفاقات كلها، فإنه ليس من السهل على بريطانيا أن تضحي بدورها العالمي بصفتها قوة كبرى وتنسحب مجرجرة أذيال هزيمتها هناك. ولا سبيل في تصور ساستها وقادتها للقبول لهذه الدولة ذات المجد الإمبراطوري الممتد طولاً وعرضاً ذات يوم على نطاق العالم كله، أن ترتضي لنفسها دول دولة أوروبية صغيرة متواضعة مثل السويد. فعلى رغم الهزات التي أصابتها، لا تزال بريطانيا سادس أكبر اقتصاد عالمي، كما لا تزال عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي، إضافة إلى كونها قوة نووية كبرى، ولا تفوقها من حيث القوة العسكرية سوى الولايات المتحدة الأميركية. وعلى بريطانيا أن تستعيد ثقتها مجدداً في أن لها دوراً عالمياً تؤديه اليوم رغم خسارتها الكبيرة لأمجادها الإمبراطورية السابقة. جيمس فورسيث ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي بريطاني ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"