نجم عن هزيمة 1967 -التي أسموها النكسة- أي أنه سيكون بعدها نصرٌ مؤزر! لحفظ ماء الوجه وستر عورة الضعف العربي! أن انكشف وجه ضعف الاستراتيجية والدبلوماسية العربية في مواجهة القوة العسكرية والدبلوماسية الاستراتيجية التي تنطلق من داخل دوائر ديمقراطية -مهما اختلفنا على مواقفنا من العدو الصهيوني- يمكن أن "تشرشح" المسؤول وتقيل رئيس الوزراء وتسجن وزير الدفاع! وهذا مما لا نجد له نظيراً في العالم العربي، اللهم إلا وقت الانقلابات وفلتان الأمور. ودوماً كان للمقاومة دور في تحرير الشعوب المُضطهدة! وعلى سبيل المثال نضال الشعب الهندي -المسالم- على يد المناضل المهاتما غاندي ضد الإنجليز، ونضال الشعب الفيتنامي "الثوري" ضد الاحتلال الأميركي، وبدرجة مماثلة ومختلفة نضال الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي. وحقّ لمثل تلك التجارب نضالها -ومنها تجارب في أميركا اللاتينية مثل نضال كاسترو وجيفارا كنموذجين معاديين للاحتلال. ولربما لا ننسى أيضاً نضال شعب جنوب أفريقيا ضد سياسات الفصل العنصري واستغلال البيض لمقدرات الشعب، حيث كان النضال والمقاومة حاضرين في تلك المواجهات الدامية التي أدت في النهاية إلى تحرير جنوب أفريقيا والتخلص من سياسات الفصل العنصري. وبعد حرب 1967، سقط العديد من الشعارات التي وظفتها الدولة العربية كي تكون مرجعية للخطأ والصواب. وتشرذم قادة الأحزاب -ذات الصبغة الأيديولوجية- وضعف الأمل بقدرة النظام العربي -خصوصاً في دول المواجهة- على التصدي لإسرائيل. وحتى لا نهمل حوادث التاريخ أو "يزعل" علينا البعض لا بد وأن نشير أيضاً إلى حرب أكتوبر 1973، وتحطيم القوات المصرية لخط بارليف وعبور القناة، ولربما كان ذلك ثمن اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل. وهنا -أي بعد سقوط الأقنعة وبروز هشاشة الشعارات القومية- ظهر اتجاه جديد في عقول بعض الجماعات العقدية، وهو المقاومة الشعبية استناداً إلى الفكر المذهبي أو الأيديولوجي! وهو الذي يتكرر نموذجه اليوم في العراق بصورة غوغائية وهمجية ضد الشعب العراقي. كانت المقاومة أولاً عبر منظمة التحرير الفلسطينية -وفصائلها الأخرى- التي اعتبرها الشعب الفلسطيني والعرب كافة الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني طوال أربعين عاماً! ثم هبت رياح عاتية كسرت قلاع الفصائل الفلسطينية وردمت خنادق النضال التي تمترس الجميع فيها، فأصبحت منظمة التحرير الفلسطينية بمثابة "العدو الأول" للشعب الفلسطيني في مخيلة الفصائل الدينية والأيديولوجية الأخرى! ومنها "حماس" و"الجهاد الإسلامي". وشهدت الأرض الفلسطينية جريان الدم الفلسطيني عندما تقاتل إخوة بالأمس، أعداء اليوم، حول تفسير مفهوم "المقاومة" أو "الجهاد"، وعدم إمكانية تحالف منظمة التحرير (السلطة) مع حركات المقاومة! لاختلاف مناظير ورؤى كل فريق. وشهدت المرحلة انتخابات حرة، وفازت "حماس" فيها، وهذا ما زاد في انشقاق الصف الفلسطيني. وغذّى هذا الاتجاه العرب "المتفرجون" خارج الملعب! والذين يدفون لـ"المدرب" دون قدرة على خوض المباراة. فأصبح هنالك فسطاطان -حسب التعبير البنلادني- فسطاط السلام (الأميركي) الذي تتبعه السلطة الفلسطينية، وفسطاط المقاومة ويقوده كل من "حماس" و"الجهاد الإسلامي". وبعد "غزوات" أميركا، حسب تعبير ابن لادن، ظهر مفهوم جديد أو تطور آخر لـ"المقاومة"، يعتمد على قضية الترويع وتشتيت الأمن، وربط الماورائيات العقدية بمسألة مقاومة إسرائيل! وتمثل هذا الاتجاه في أسلوب "حزب الله" في مواجهة إسرائيل، حيث تم "تغييب" الدولة، والانفراد بقرار السلم والحرب بين إسرائيل و"حزب الله"، وكان من نتيجة ذلك تدمير حوالي ثلث لبنان وبُناه التحتية، وضاع الإنسان العربي البسيط بين التزامات الدولة اللبنانية تجاه المواطنين، وبين دعوات "حزب الله" نحو استمرار المقاومة، ولو أدى ذلك إلى تدمير كل لبنان، لقاء تدمير دبابة "ميركافا" واحدة! وحدث أن تحدت "المقاومة" سلطة الدولة -في لبنان- وقامت باحتلال بلدها، بصورة غير مقبولة عالمياً وإقليمياً، عندما نزحت الجموع من الجنوب والضاحية واحتلت وسط بيروت التجاري، الوجه الحضاري والاقتصادي للبنان، وعطلت الحياة فيه -بسبب الخيام والسكن العشوائي والثقافة الشعبية التي لم تكن تناسب "السوليدير" الحضاري في وسط المدينة. مما أدى إلى خسارة لبنان لملايين الدولارات، ودون أن يتحرك وتدٌ حديدي باتجاه إسرائيل، أو أن تحدث أية مكتسبات على الأرض أو حتى إيجابيات في خانة "حزب الله"، الذي تراجعت شعبيته عند الليبراليين العرب وجزء كبير من اللبنانيين. أما الأصولية العنيفة في شكلها الآخر، فقد تمثلت في حركة ابن لادن التي لا تؤمن إلا بالعنف، وإن كان ذلك بوسائل جديدة وبالغة الخطورة أذهلت حتى اللحظة كل السواتر وأجهزة الاستخبارات الأميركية! ودارت أساطير عديدة حول "الغزوات" داخل الأراضي الأميركية عام 2001. وللأسف، تمكن التطرف من التأثير على شريحة من الشباب المسلم (البائس) واليائس أصلاً من سوء أحواله المعيشية . وسقطت الدولة -كنموذج آخر أيضاً- في العراق، بعد أن سقطت الدولة القوية التي كان يحكمها بالحديد والنار صدام. وفرضت العقيدة والعشيرة نفسها في شكل المقاومة الجديد هناك. ولعل المكشوف أو المزعوم في تلك المقاومة هو مقاومة "الاحتلال الأميركي"! وللحقيقة، فقد كشّرت العقيدة والمذهبية المتصارعة والمتكارهة، عن أنيابها، وبدأت تنهش في بلاد الرافدين شمالًا وجنوباً ووسطاً! وعبث الجميع بموارد العراق وسرقة مستقبل أبنائه. فغابت الدولة الموعودة، وتقاتل الإخوة، وصاروا شيعاً وأحزاباً، ليس لقتال الأميركيين فقط، بل للفوز بجزء أكبر من كعكة العراق اللذيذة! من أجل العشيرة والعقيدة، وليس من أجل تحرير الوطن. ولقد غذّى التيارات المتقاتلة -تحت دعاوى مقاومة الغزاة- بعض دول الجوار من الذين كانوا على خط الاحتياط، ولم يقذفوا بلاعبيهم داخل الملعب العراقي، اللهم إلا من تسلل في الظلام معتمداً على العقدية والمذهب. ومازال الخراب يتواصل، وإمكانية التجزئة الجغرافية حاضرة. كما لا تخفى قضية تحالف الأكراد مع الأميركيين إبان الاحتلال عام 2003، حيث دخلوا مدينة كركوك التي لم تكن من ضمن محافظات إقليم كردستان العراق، ومازال الأكراد يطالبون بضم هذه المدينة (الغنية) إلى إقليمهم. لكن الطوائف الأخرى من العرب والتركمان تعارض ذلك. وهكذا، نلاحظ أن العهد الجديد لـ"المقاومة" منذ هزيمة 1967 لم يحقق للعرب أي تقدم، سواء على صعيد عودة الأراضي العربية المحتلة، أو تقدم الدولة وتعاضدها مع المقاومة التي حتماً ستصبح مدنية إيجابية بعد كل حرب. والإشكالية الكبرى -التي ربما لم ينتبه لها كثيرون- هي أن "مقاومات" بشكل جديد قد تظهر في مناطق عربية أخرى على خلفية ازدياد النفوذ الديني المتطرف، واكتشاف حالات "النفاق السياسي". ونحن نتوقع أن تشكل هذه "المقاومات" أسلوباً أكثر دموية مما سبق إذا لم يتم تدارك الأمر، والتصدي لظاهرة "المقاومة" على أكتاف "الإسلام السياسي"، والتلويح بالانتماءات المذهبية والعشائرية بدلاً من قيم المواطَنة.