يحار المرء في تفسير دوافع أشخاص يعيشون في مناخ ديمقراطي ويتمتعون بكامل حرياتهم وينعمون بمباهج الحضارة ولا يعانون من أزمات اقتصادية أو نفسية ولا يوجد ما يشير إلي أي نوع من مظالم واقعة عليهم، ما الذي يجذبهم ويستهويهم في الفكر "القاعدي"؟ ما الذي يعجبهم في الفكر العنيف؟ لماذا يتركون بلادهم وذويهم ويلتحقون بـ"القاعدة"؟ لماذا يجندون أنفسهم في خدمة أهداف "القاعدة"؟ لماذا ينقلبون على أوطانهم ويصبحون حرباً عليها؟ ما الذي زيّن لهم أن الإسلام هو "القاعدة"؟ مناسبة هذه التساؤلات، هي الظاهرة التي بدأت في الانتشار في السنوات الأخيرة في أوروبا وأميركا، إذ نفاجأ بين آونة وأخرى بأنباء حول القبض على أشخاص أوروبيين أو أميركيين ومحاكمتهم لكونهم اعتنقوا الإسلام وأصبحوا جنوداً لـ"القاعدة" هناك وضد أوطانهم وخططوا لتنفيذ عمليات تخريبية أو دموية بحجة نصرة الإسلام في ديار الغرب ومناصرة "المجاهدين المسلمين"! حملت الصحف مؤخراً نبأ اعتقال خلية "نورث كارولينا" في أميركا بتهمة دعم حركات جهادية عنيفة في دول بينها إسرائيل والأردن وكوسوفا وباكستان، وقد تألفت الخلية من 8 رجال قاموا بتخزين أسلحة آلية والسفر إلى الخارج عدة مرات، وتضمنت خططهم تنفيذ هجوم انتحاري. وكان زعيمهم، واسمه "دانييل بويد"، واثنان من أولاده قد تجاوزوا نطاق الإيمان الديني إلى مجال الإرهاب، وكان أبوه جندياً بمشاة البحرية واعتنق الإسلام وتلقى تدريباً على يد أصوليين إسلاميين في باكستان وأفغانستان. أما "دانييل" ابنه، فقد تدرّب في أفغانستان وباكستان ورجع إلى الولايات المتحدة لتشكيل مجموعته الجهادية ولجمع الأموال اللازمة لتنفيذ هجمات بالخارج، كما جاء في لائحة الاتهامات الأميركية. وهذا ما دعا وزير العدل الأميركي إلى إطلاق صيحة تحذير من تصاعد المد الأصولي بين الأميركيين. السؤال المحيِّر: لماذا يترك "بويد" الإسلام الذي يبشر به ويدعو إليه كافة الدعاة عبر الولايات المتحدة، هذا الإسلام المعتدل الذي يدعو للسلام والإخاء والمحبة، ليتمسّك بالتفسير الذي يدعو إليه دعاة متشددون؟ ما سر جاذبية الخطاب الأصولي خارج ديار الإسلام؟ لقد بلغ الانحراف في فهم الإسلام لدى "بويد" أنه، وكما قال المحققون: توقف عن ارتياد المساجد هذا العام بسبب "خلافات أيديولوجية"، وشرع في إقامة شعائر صلاة الجمعة بمنزله! كما حملت الأنباء أن محكمة استئناف فرجينيا قضت بسجن رجل مدى الحياة لانضمامه إلى "القاعدة" والتخطيط لاغتيال الرئيس السابق جورج بوش. وكان أحمد عمر أبوعلي البالغ من العمر (28) عاماً قد انضم إلى "القاعدة" عندما كان يدرس في إحدى الكليات بالسعودية وتلقى بعد ذلك تدريباً لتنفيذ عملية اغتيال بوش وعمليات إرهابية أخرى. وأبوعلي هذا من مواليد مدينة هيوستن وتلقى تعليمه في مدرسة إسلامية عليا محلية. وكانت السلطات الأميركية قد أعلنت نبأ إلقاء القبض على أربعة أشخاص في نيويورك بتهمة التخطيط لتفجير كنيس يهودي ومركز اجتماعي محلق به ولإسقاط طائرات عسكرية باستخدام صواريخ "سينغر" المحمولة على الكتف. وثلاثة من هؤلاء الأشخاص اعتنقوا الإسلام في السجون، والرابع من أصول أفغانية، وقد كونوا "خلية نيويورك". واستطاعت المباحث الأميركية زرع عميل بينهم، أوهمهم أنه يستطيع شراء أسلحة وصواريخ لهم، وكانت المباحث تراقبهم منذ العام الماضي. وصرّح زعيمهم المعروف باسم "عبدالرحمن" واسمه الحقيقي "جيمس كرومتي" لمخبر المباحث الأميركية أنه مستاء جداً لقيام القوات الأميركية بقتل المسلمين في أفغانستان! والسؤال المهم هنا: لماذا يكون اعتناق الإسلام من قبل هؤلاء معبراً للإرهاب؟ وهذه قصة مأساوية أخرى، شاب أميركي اسمه "برايانت نيل فيناس" واسمه المستعار "بشير الأميركي" اهتدى إلى الإسلام في شهر نوفمبر الماضي، وقام بتجهيز نفسه وسافر من "لونغ آيلاند" إلى باكستان للانضمام إلى "القاعدة" وللقيام بهجوم انتحاري، وهناك قام برحلة داخلية بحثاً عن زوجة، وفي بيشاور، قبض عليه العملاء الباكستانيون وقدم للمحاكمة. وفي يناير الماضي، وقف "فيناس" (26 عاماً) أمام محكمة "نيدرال ديستركت" في بروكلين واعترف بالتهم المنسوبة إليه وبتلقيه تدريباً عسكرياً لدى "القاعدة" لقتل جنود أميركيين وتقديم معلومات إلى قادة إرهابيين لتنفيذ هجمات على خطوط السكك الحديدية في "لونغ آيلاند". وقد قاد اعتراف "فيناس" إلى محاكمة 6 أفراد في بلجيكا بتهمة التخطيط لشن هجمات إرهابية هناك، وفتح هذا الاعتراف "نافذة" للمباحث الأميركية، توضح أسلوب "القاعدة" في تجنيد الغربيين، وكيف تقوم بتدريبهم وتغيير حياتهم... فمن يصدق أن يترك "فيناس"، هذا الشاب الأميركي، الحياة الرغدة، ليقطع نصف الكرة الأرضية، ليعيش في جبال غرب باكستان وليحارب القوات الأميركية؟ والسؤال الملح الذي يبقى دون إجابة: ما سبب اهتداء فيناس إلى الإسلام "القاعدي"؟ من القليل الذي كشف عنه في حياة هذا الشاب أنه رقيق الكلام ومصاب بالربو وقد تأثر بانفصال والديه فانغمس في المخدرات، وبعد أن استقام قام برسم صلبان على يديه ليشير إلى التزامه بالتوبة والحياة المستقيمة، ثم التحق بالجيش عام 2002، لكنه استبعد بعد 3 أسابيع لأسباب صحية، واهتدى للإسلام عام 2004 وأصبح عضواً في "الجماعة السلفية" واستمر يحضر محاضرات في "الهيئة الإسلامية" في "لونغ آيلاند" حتى بداية 2007، حيث سافر إلى باكستان. إن العامل السياسي وحده لا يفسر لنا عملية تحول شاب غربي له ثقافة مختلفة كي يعتنق ديناً مختلفاً ويعيش حياة مختلفة، لينقلب180 درجة ويعتنق فكر "القاعدة"، بل يسعى عملياً للالتحاق بمعسكراتها وليصبح جندياً في صفوفها، يحارب وطنه وقوات بلاده! هناك عوامل أخرى نفسية دفينة، هناك إحباطات معينة، هناك نبرات طفولية قاسية لازمت هذا الشاب حتى إذا وجدت الظرف والبيئة المناسبين، تفاعلت مع المناخ الجديد، وحوّلت هذا الشاب الوديع إلى إرهابي دموي. لا أجد تفسيراً آخر. ولعلنا نتذكر، كيف كان يعيش زعماء الأصولية في لندن التي آوتهم وضمنت لهم الملجأ الآمن ووفرت لهم سبل العيش الكريم، لكنهم استغلوا مناخ الحرية لينشروا فكرهم العنيف ويروجوا ثقافة الكراهية بين أبناء الجالية الإسلامية هناك. وكان الأصولي السوري "عمر بكري" زعيم "المهاجرين" أو "الغرباء" يصول ويجول عبر الفضائيات، يهدد ويتوعد قائلاً: إن بريطانيا أصبحت "دار حرب"، وفي هذه الدار "لا يوجد شيء مقدس للكفار أو ممتلكاتهم" وأن "النصر سيكون للقاعدة، وعلى المسلمين الانضمام إليها". الإحسان البريطاني لم يجعل بكري يعطي قيمة لحياة الآخرين وكأنما قلبه قُدّ من صخر. وهناك أيضاً "أبوقتادة"، السفير الروحي لـ"القاعدة" في أوروبا، وغيرهما كثيرون. لكن السؤال الحيوي الذي يبقى بدون إجابة شافية: لماذا يكسب "الطرح الإرهابي" عقول ومشاعر بعض الشباب في أوروبا وأميركا؟ هذا هو التحدي الذي يواجه دعاتنا وممثلي خطابنا الديني في الغرب.