غدت أيام الجُمَع والآحاد، من الأسبوع، مواعيدَ موت جماعي ببغداد، وغيرها من حواضر العراق، وليس أسهل من استهداف جامع وكنيسة، ومال الركع السجد وتوزر السلاح! إلا إذا كانت صلاتهم صلاة الخوف، وأرى في هذه الظروف العصيبة وجوب الرخصة بصلاة الخوف، تلك التي تؤدى في الحروب والفواجع. أليس ما يحدث حرباً وفاجعةً، ومواجهةً مع مَنْ لا يكترث لصلاة مسالم أعزل، ولا لإمام أو راهب بحت حنجرته من أجل السلام واستبعاد الموت! فمن موجبات هذه الصلاة كثرة الأعداء وقوتهم، وها هم أكثر من النمل! وتأديتها: أن يسجد ويركع الخائف قدر الإمكان، وحتى جوَّز له الركوع والسجود بالإيماء، أو ماشياً أو واقفاً، فالدين يسرٌ لا عسرٌ. هذا ملخص ما أورده صاحب "الموطأ" الإمام مالك بن أنس (ت 179 هـ)، وما قرأته في الفقه الشيعي أيضاً (الشيعة في عقائدهم وأحكامهم)، حول تلك صلاة، والحمد لله لم يختلف المذهبان في هذه المسألة. فمتى تصلى صلاة الخوف إذا لم تصل هذه الأيام، والأمة العراقية كلها مستهدفة، وإن كان التركيز على مساجد الشيعة، في الجمعة الماضية، فهو لتكرار ما حدث لقبة العسكريين بسامراء، وما خلف من هلاك حتى ازدحمت المقابر، وهانت هيبة الموت، إلى حد أخذت الجنائز تمر بلا مراسم ولا شعائر! ولما سكنت تلك الفتنة، إذ لم تسفر عن مواجهات مجتمعية بين محلات ومدن وعشائر، عاد اللؤماء لتحريكها. يصعب تحديد الجهة المنفذة والممولة، فالمستفيدون من هذا الموت كثرٌ، وربما ستكون هناك مفاجآت في حال الكشف عن هويات المتنفذين، لكن لا أحد يكشف. فيا تُرى هل هو عجزٌ عن الوصول إلى الحقائق، أم أنه تقليد من تقاليد المحاصصة: أنت تتهم أنا أتهم! أم أن القاتل له حصانة أبعد من الحصانة البرلمانية، ومنطق الجوار إن كان من دول الجوار. لقد غدا الإعلام العراقي ملغزاً، وتصريحات المسؤولين عبارة عن تمتمات لا تجد فيها سوى الإيماءات للتعبير عن قضايا كبرى: مذابح جماعية، وسرقات مليارات. فبداية من رئاسة الوزراء وحتى الشرطي لا تتجاوز التصريحات حدود كلام مثل: إن بعض دول الجوار، إن بعض الكيانات، إن بعض المسؤولين، وهلمَّ جرا من التبعيض والإيهام! سبعٌ عجاف من السنين والدم العراقي يسيل، والأرض تضيق بالقبور، ونشطت تجارة التوابيت، وارتفعت أجرة حفاري اللحود، فتأمل خيال شاعر شعبي، من فئة الشباب، يهم بالتقاط صورة مع ملَك الموت، سمعته يقرأ من فوق منبر من المنابر الثقافية: "عراقيين نثبت من يجينَّا الموت، وإنطك (نلتقط) صورة وي عزائيل تذكار"! تخيلوا المشهد الدرامي، والخيال الجامح، أصبح واقع حال! إلى جانب تربية وتعليم ومؤسسات تدعي الثقافة لا تُخرج إلا عقولاً مملوءة بعتمة الحزن، وتمجيد الموت، وتحبيذ البكاء، والسواد شعار دائم، فماذا سيكون المستقبل! تعالوا نجس توقعات المسؤولين وعجالاتهم في رسم السياسة العراقية، فكم لهجوا بضرورة كتابة الدستور، والتصويت عليه بسرعة، وها هو الدستور ادعوه "حلاً للمشكلات فكان أكبر مشكل". وها هو المبرر لتقسيم العراق، وتراه يقف عائقاً أمام تقدمه وأمنه، وغدا كتاباً مقدساً، وكل عضو في لجنة كتابته تخيل نفسه عبدالرزاق السنهوري (ت 1971)، واضع الدساتير والقوانين الشهير، ومنها العراقية، وفي اللجنة خريجو حوزات، وورشات فنية، إلا أنهم كانوا "مجاهدين". أما التصويت عليه، من قبل الجماهير المتعبة بالحروب والحصار، فكان تصويتاً أعمى، لكن التسرع في كتابته وعرضه للتصويت لا يُفسر إلا بمحاولة اقتناص الفرصة، ولو على حساب وحدة العراق ومدنيته. تراهم عجّلوا بالانتخابات، وتحققت الأولى منها والثانية، فأسفرتا عن برلمان معطل، لم يعرف الناخب مرشحه، سوى أن هذا شيعي، وذاك سُني، وثالث كُردي. نتذكر جيداً تصريحات المسؤولين أن الانتخابات هي الدواء الشافي للعنف الساري آنذاك بقوة، والنتيجة أسست تلك العجالة عنفاً مركباً، وأخرجت بلاداً ضعيفة إلى حد الاستقواء بالجهلة وشذاذ الطرقات لفرض واقع طائفي. ووضعت البلاد بيد وزراء ليس لهم كفاءة ولا أمانة، ولمحمد جواد الشبيبي (ت 1944) قول: "وا ضيعة الأكفاء بعد مناصبٍ... حفظت مقاعدها لغير كُفاةِ". أليس مخجلاً أن يصل حال العراق إلى هذا الحد من الاضطراب، والمعاناة! أن تتحول مصيبة الحسين إلى تجارة، ويُكذب على المواطن الدين! أليس مخجلاً ألا يجد أهل الأديان، وهم أهل الأرض القدماء، ملاذاً آمناً عليها! وألا يجد المصلون أمناً في مساجدهم! وفي كل جُمعة وأحد تخرج الأجساد متناثرة من دور العبادة! يبقى العنف، وضعف الدولة إلى حد السطو على بنك وسط بغداد، من دون كسر قفل ولا خلع بوابة، ويفتك بحراسه الثمانية، والساطون من حماية نائب الرئيس، واحدة من انعكاسات تلك السياسات، واللهفة إلى كرسي الحكم وبأي ثمن. وإلا ما معنى أن ألوف المقاتل نفذت بدماء باردة وبألغاز محيرة، ولم يقف قاتل في قفص الاتهام! وأن يفسد بالمال العام كل هذا الفساد ولم يقف فاسد للحساب، وتبدو رئاسة الحكومة متورطة في ما أسفرت عنه محاسبة وزير التجارة، ليغلق الملف ويمنع ويعفى وزراء من الاستجواب. حاولتُ تصفح تاريخ الفيضانات والطواعين وأحوال مضطربة من ماضي العراق، العباسي والعثماني، لعلَّي أجد ما ينفع في الدليل على تشابك الأزمنة، ووجدت حقباً عديدة غلب فيها الطاعون، لكثرة الموت أخذ الناس يرمون جثامين الهالكين إلى الأنهر، ليكون الماء كفناً وقبراً، وفي إحدى الحصارات اضطر البغداديون إلى التهام لحوم السنانير والكلاب، ومَنْ يراجع المؤرخ عباس العزاوي (ت 1971) وسِفره "العراق بين احتلالين"، يجد المزيد من الكوارث، لكنها موسمية، الفيضان ينسحب والطاعون يهاجر، والحصار ينتهي، ولم تستمر الحال أكثر من سنة وبضعها، وليس هناك مَنْ يدعي أنه دولة، ويجاهر بمفاخر أمنية أو معاشية، لكن للسبع العجاف شأن آخر- أكرر ذكر هذا اللفظ والمعنى لقوة دلالته على ما يحصل للعراقي ولبلاده ـ خطاب ضد الطائفية وهو طائفي، خطاب مع وحدة العراق وهو انفصالي، ولا أظن أن حقبة أدخلت الدين والشعائر بهذا الرخص مثلما هي الآن! قلنا، كان الموت ذا رهبة وندرة في الحدوث، ولمشهد الجنازة هيبة ووقار، أما مقاتل اليوم ومذابحه، فلم تبق للموت شأناً، أو للحياة ذلك المعنى، الذي خشاه محمد مهدي الجواهري (ت 1997)، في رائعته: "أنا أبغضُ الموت اللئيم وطيفه.. بغضي طيوفَ مخاتل نصَّابِ.. ذئبٌ ترصَّدني وفوق نيوبهِ.. دمُ أخوتي وأقاربي وصِحابي" (من قصيدة في الرصافي 1959). أقول: إذا لم تأمن الناس في المساجد والكنائس فإلى أين الفرار! رشيد الخيُّون ـــــــــــــــــــــــــــــــــ r_alkhayoun@hotmail.com