مدهش ذلك الوضع وما شاهدته أثناء حضوري مهرجان الرطب الخامس في ليوا وزيارتي للمنطقة الغربية نهاية يوليو الماضي، وهو يجعلني أقول إن من لم يحضر مهرجان الرطب هذا العام يجب أن يحضره في السنة المقبلة ومن لم يزر مدينة ليوا وما جاورها من مدنٍ ومحاضر فقد فاته الكثير ليعرفه عن الإمارات، فتلك البقعة من الأرض تضم الكثير من تراث وتاريخ الإمارات الأصيل، كما أنها تضم مناظر طبيعية خلابة لا يمكن رؤيتها إلا هناك، فضلاً عن أبنائها الذين يتميزون بسماحة الطباع وطيب الأخلاق ما يجعلك تشعر من أول لقاء بهم أنك تعرفهم منذ زمنٍ بعيد. لا يختلف اثنان على أن المنطقة الغربية صارت اليوم على الخريطة السياحية في الإمارات ومهرجان الرطب والفعاليات المصاحبة له ساعد على ذلك، فوصل عدد زواره ستين ألف زائر خلال عشرة أيام. كما أن هذا المهرجان ساعد على إبراز المقومات التراثية والثقافية لتلك المنطقة بشكل خاص وللإمارات بشكل عام. وما يدعم حضور المنطقة في المشهد الإماراتي في المرحلة المقبلة هو الثقة الغالية التي أولاها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة -حفظه الله- لسمو الشيخ حمدان بن زايد آل نهيان بتعيينه ممثلاً لحاكم أبوظبي في المنطقة الغربية، هذا القرار الذي أفرح أهالي المنطقة الغربية كثيراً، وهو ما يزال إلى اليوم حديث الناس والمجالس، فالجميع يستبشرون خيراً كثيراً بوجود سمو الشيخ حمدان بن زايد بينهم هناك. وجولات سموه الأخيرة في المنطقة جعلت الناس يتوقعون الكثير لمنطقتهم التي كانت دائماً محل اهتمام من القيادة منذ عهد الشيخ زايد -رحمه الله- وإلى اليوم. لقد نجح مهرجان الرطب في تأكيد قيمة النخلة ومكانتها في بيئتنا الصحراوية، كما ساهم في تعزيز مكانة المنطقة الغربية وأعاد إليها الأنظار... والمهرجان في عامه الخامس بدأت تظهر تأثيراته الإيجابية على "النخلة"، فقد أدى إلى زيادة توعية المواطنين بطرق زراعة النخيل والعناية بها وجعلهم ينظرون إلى هذه النخلة نظرة اقتصادية من خلال استخدام الطرق الحديثة في الزراعة والاهتمام بجودة إنتاج الرطب والوصول بأصناف تمور الإمارات إلى التميز وإنتاج أفضل الأنواع. المدهش الذي أُريد الإشارة إليه في هذه المقالة ليس الرطب المعروض في المهرجان فرطب "الغربية" وليوا معروف بطيبه منذ زمن وهو يصل إلينا كل عام ويكون كل عام أطيب وأحلى... لكن ما أدهشني حقاً هو أمر لا علاقة له بالرطب، بل له علاقة بمن زرع تلك النخلة ومن خرفها... فما أثار انتباهي هو الطقوس المصاحبة للمهرجان والحضور النسائي اللافت فيه، بل المشاركة الكبيرة للمرأة في فعاليات هذا الحدث... فعلى يمين وشمال الخيمة الرئيسية لمهرجان الرطب، كانت هناك خيمتان، على اليمين كانت خيمة الأعمال التراثية، وعلى اليسار كانت خيمة السوق الشعبي، وفي هاتين الخيمتين وجدت شيئاً مثيراً للاهتمام بالنسبة لي ولكل من يبحث عن الحقيقة بلا رتوش، فما كان لافتاً حقاً أن المشاركين في السوق الشعبي أغلبهم من النساء -نساء المنطقة الغربية بالطبع- نساء هذه الأرض بكل حشمتهن وبكامل زيّهن الإماراتي وبكل احترام تجلس كل واحدة منهن في الزاوية التي تعرض فيها معروضاتها ومشغولاتها اليدوية... يتعاطين مع الرجال والنساء بلا تفرقة. وبعض المشاركات كن سيدات تجاوزن الستين وأخريات في منتصف العمر وأخريات آنسات صغيرات حضرن للمشاركة في هذه الاحتفالية السنوية بالرطب وبالنخلة، ليؤكدن جميعاً التزام المرأة الإماراتية بقيمها وفي الوقت نفسه التزامها بالمشاركة في المجتمع وفعالياته. سعدت كثيراً لأنه لم يصل المتزمتون والمتشددون كي يلوثوا عقول الناس وقلوبهم هناك بأفكارهم المتطرفة التي لا تمتّ للدين بصلة، فكان الناس وما يزالون هناك على فطرتهم وعلى سجيتهم، يقابلون الإحسان بالإحسان ويقابلون السؤال بالإجابة... وكم شدني في ذلك المعرض أحد الزوار الأجانب وقد رأيته وهو يقترب من سيدة عجوز تبيع بعض المشغولات اليدوية في زاويتها ويسألها "بلغة الإشارة" عن سعر شيء ما وأجابته "بالإشارة" أيضاً... فباعت ما صنعته يداها واشترى ما جعله يذهب سعيداً ومبتسماً... إنها بساطة أهل الإمارات التي كانت وما زالت رغم وجود بعض من يحاول تشويهها من خلال الأفكار المستوردة والتي لا علاقة لها بمجتمعنا لا من قريب ولا من بعيد. ومن جهة أخرى، وفي خيمة الأعمال التراثية، ساهم هذا المهرجان في إبراز الهوية الوطنية والترويج لها من خلال فعالياته ومن خلال جناح الأعمال التراثية وما ضمه من عروض وتصاميم تراثية قدم أغلبها نساء المنطقة الغربية من خلال نماذج لمساكن أهل المنطقة وطبيعة حياة الناس، بالإضافة إلى الأدوات القديمة التي كان يستخدمها الناس وكذلك ألعاب الأطفال وكل تلك المعروضات صنعتها نساء الغربية ليشاركن بها في المهرجان وكان ما صنعن رائعاً ومتميزاً وفعلاً يستحق أن يطلق عليه "صنع في الإمارات". وعلاوة على بساطة تلك الأشياء، فإنها صنعت بمواد من بيئة الإمارات وبأيدٍ إماراتية. لقد كان المكان أشبه بالمتحف خصوصاً تلك النماذج الحية للحياة القديمة في المنطقة الغربية، والتي صنعت بالمواد الطبيعية التي كانت الحياة تتكون منها في الماضي... والجميل أن النساء بدأن منذ أشهر طويلة الاستعداد للمشاركة في هذا المهرجان السنوي المهم، وذلك من خلال صناعة المشغولات اليدوية التي لها علاقة مباشرة ببيئة الإمارات وبالنخيل تحديداً ليعرضن تلك المصنوعات والمشغولات في خيمة الأعمال التراثية أو السوق الشعبي الذي كان فعلاً سوقاً شعبياً بكل ما احتواه من أدوات ومواد محلية الصنع... وما زاد السوق الشعبي رونقاً وروعةً أن كل البائعات فيه من نساء "الغربية"... ولا شك في أن هدف نساء "الغربية" من المشاركة كان نبيلاً، وهو الحفاظ على تراث الآباء ونقله إلى الأبناء وهذه مهمة سامية قمن بها بكل حب وإخلاص كانا واضحين في كل زاوية من زوايا المهرجان. أخيراً، لا يمكنني إلا أن اعترف أن ذاكرة الإنسان الإماراتي تستعيد قوتها في ذلك المكان، حيث كل شيء فيه يذكر الإنسان بتراثه وتاريخه... والاحتفال بالنخلة وبالرطب طقس سنوي يستحق أن ينال هذا الاهتمام وأكثر، فالنخلة جزء أساسي يدخل في تراث وثقافة مجتمع الإمارات... فشكراً لكل من فكر في مثل هذا المهرجان وشكراً لمن أبدع في تنفيذه وألف شكر لكل امرأة شاركت فيه.