في الآونة الأخيرة، وفي سياق جهود محاربة الإرهاب والفكر المتطرف الذي يقف وراءه في السعودية، بدأ مفهوم "الأمن الفكري" يبرز ويأخذ مكانه في التداول داخل المجتمع. آخر المؤشرات على ذلك كان انعقاد مؤتمر وطني يحمل هذا المسمى، ثم اقتراح لجنة الشؤون الدينية والاجتماعية في مجلس الشورى إنشاء هيئة وطنية تعنى بموضوع الأمن الفكري. يبدو أن هذا المفهوم يحمل قدراً من الجاذبية أغرت البعض بالأخذ به. فهو مفهوم سهل، ويعبر بشكل مباشر عن حاجة ملحة لمواجهة التطرف، وما يمثله من انحراف فكري. واللافت في هذا أن مفهوم "الأمن الفكري" أخذ يحل محل مفهوم آخر كان هو الشائع، وهو مصطلح "الوسطية". على العكس من الأخير، يتجاور في المفهوم الأول مصطلحا "الأمن" و"الفكر". وهو جوار غير مسبوق من قبل، بل لعله جوار غير محمود من حيث إنه ينطوي على عكس ما هو مأمول منه في الأساس. المقصود بالأمن الفكري هو إعادة الخطاب الديني إلى ما يسمى بالوسطية والاعتدال، وتخليصه من التوجهات المتطرفة، ومن الطروحات "الجهادية" التي تنامت في العقود الأخيرة داخل التيار السلفي، وأصبحت تمثل مدرسة فكرية وسياسية فاعلة داخل هذا التيار، واكتسب اسم "السلفية الجهادية" في الأدبيات التي تُعنى بـ"الإسلام السياسي". بمثل هذا التحديد، لا يبدو أن مفهوم "الأمن الفكري" ينطوي على إشكالية تستدعي التوقف عنده، والتأمل في صلاحيته كآلية ناجعة لتحقيق ما هو موجه له. فكما هو واضح، فإن الهدف من صك مفهوم "الأمن الفكري" هو هدف مشروع، بل وهدف نبيل؛ لأنه أولاً يقصد إلى استخدام الفكر، كما يشير إلى ذلك الجزء الثاني من المفهوم، في ميدان محاربة الإرهاب، وذلك تكاملاً مع الجهود الأمنية التي حققت نجاحات باهرة في محاربة هذه الظاهرة في السعودية. وهو هدف نبيل أيضاً؛ لأنه يسعى إلى ترسيخ الأسس الفكرية لدعم مرتكزات الأمن في المجتمع السعودي. وبالتالي، فليس هناك ما يوحي بأية إشكالية في مفهومٍ الهدفُ منه تحقيق ما هو محل إجماع بين السعوديين وغير السعوديين. لكن انطلاقاً من معادلة العلاقة بين الهدف والوسيلة، هناك إشكالية قد تكون كبيرة وشائكة تختفي خلف المعنى البراق والمباشر لهذا المفهوم. أول معالم هذه الإشكالية أن الفكر يختلف عن الأمن في مكوناته، وفي منطلقاته. الفكر هو العقل المفكر للمجتمع، وبالتالي فهو ملك للجميع، ومتاح لكل من يريد خوض غماره، وإن ضمن ضوابط وشروط، هي بطبيعتها ضوابط فكرية ومنهجية، وليست ضوابط أمنية. ولأنه كذلك، فإن أحد أهم مستلزمات نمو الفكر وتطوره ونضجه هما الحرية والتعددية. لا يمكن أن نقول الشيء نفسه عن الأمن؛ لأنه مفهوم يختلف عن ذلك كثيراً. هناك الأمن باعتباره جهازاً استراتيجياً من أجهزة الدولة يتولى مهمة حماية استقرار الدولة، وبالتالي استقرار المجتمع. وهذا جهاز بيروقراطي بطبيعته (بيروقراطي بالمعنى الإيجابي للمصطلح) له من المتطلبات، والمستلزمات، والآليات ما يختلف كثيراً عن متطلبات ومستلزمات الفكر. يتفرع بعد ذلك مفهوم الأمن ليشمل ميادين كثيرة في حياة المجتمع. فهناك الأمن الغذائي مثلاً، ويعني توافر المواد الغذائية بأسعار في متناول الجميع لتلبية احتياجات الناس. وهناك الأمن الاقتصادي، ومن ضمن ما يعنيه توافر فرص العمل، ومتطلبات الإنتاج، ووجود قوة عمل محلية، واستقرار الأسعار، وحماية المنتج المحلي.... إلخ. ثم هناك مفهوم الأمن السياسي، وهو حماية النظام السياسي من أي مصدر يشكل تهديداً لاستقراره. يأتي بعد ذلك الأمن الاجتماعي ويقصد به تعزيز عناصر الوفاق بين مكونات المجتمع، وتحييد عناصر النزاع فيما بينها، سواء أكانت دينية أم قومية أم طائفية، أم قبلية. ماذا يعني ذلك؟ يعني شيئين: الأول أنه يمكن أن يكون هناك فكر أمني، أو فكر سياسي، أو فكر اجتماعي أو اقتصادي. لكن لا يستقيم أن يكون هناك "أمن فكري". الشيء الثاني أن تعدد هذه المجالات، يعكس التعددية التي يتميز بها الفكر بشكل عام، وهي تعددية تفرض نفسها حتى داخل كل واحد من هذه المجالات على حدة. ومن أوضح الأدلة على هذه التعددية أن هناك نظريات كثيرة عن الأمن الاقتصادي مثلاً، أو الأمن السياسي. لكن عندما تقول "أمن فكري"، فأنت تلغي هذه التعددية مباشرة؛ لأن هذا المفهوم بطبيعته ينافي مبدأ التعددية. بعبارة أخرى، مفهوم "الأمن الفكري" يخضع الفكر لمتطلبات الأمن، وليس الأمن لمتطلبات الفكر. ولعله من الواضح أن إخضاع الفكر لمتطلبات الأمن يعني قتل عفوية الفكر، وطبيعة التعددية فيه، وبالتالي إنهاء قدرته على الإبداع. والمفارقة، أن حصول هذا لا يخدم لا أمن الدولة ولا أمن المجتمع. المطلوب لحماية استقرار الدولة، ومن ثم أمن المجتمع، حماية استقلال الفكر، وحماية طبيعته التعددية. فهذا يفجر طاقات المجتمع في مختلف المجالات، وبالتالي يوفر الكثير مما قد تحتاجه مؤسسات المجتمع، ومؤسسات الدولة. الإشكالية الثانية مع مفهوم "الأمن الفكري"، كما هو مستخدم في السعودية، أنه يعيد إنتاج التجربة الفكرية السابقة، والتي أنتجت ظاهرة التطرف ثم الإرهاب، وهي الظاهرة التي تم صك هذا المفهوم لمواجهتها. لم يعد هناك شك في أن ظاهرة الإرهاب هي النتاج الطبيعي لظاهرة التطرف، وأن كليهما نتاج للخطاب الديني الإقصائي الذي هيمن على المناخ الفكري في السعودية لعقود طويلة. ومن أهم سمات هذا الخطاب أنه أحادي التفكير، وإقصائي التوجه تحت شعارات غامضة ومطاطة مثل "محاربة البدع والمحدثات من الأمور"، و"حرمة التشبه بالكفار ومخالطتهم"، و"التمسك بما كان عليه السلف الصالح"، إلى غير ذلك من المبررات. هذه وغيرها مبررات خلافية، وليست محل إجماع فيما يتعلق بمضمونها، وحدودها، وظروف تطبيقاتها، والهدف منها. وبالتالي، قد لا تكون المشكلة في هذه الشعارات أو المبررات بحد ذاتها، بل في الخطاب الذي تبناها، وأعطاها معاني محددة لا يجوز الخروج عليها، أو الاختلاف معها. وعلى هذا الأساس، تم تحريم أمور كثيرة: الرأسمالية، والدراسة في الخارج، وتعليم المرأة، وعمل المرأة، والبنوك، والعلاقة مع الغرب، والحداثة، والدولة المدنية، والقوانين الوضعية، إلى غير ذلك. في هذه الحالة، لم يكن من الممكن التوفيق بين فكر يرتكز على محرمات لا حدود لها، وبين ضرورة السير في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع. ومما عزز من هذا المأزق، السماح لفكر المحرمات في أن يبسط هيمنته على المجتمع. في هذا المناخ، نشأ جيل تشكل ذهنياً وثقافياً على فكر المحرمات، أو الفكر المتطرف. ثم واجه هذا الجيل ما بدا له أنه انتهاك لمسلمات ومحرمات تربى عليها. أضف إلى ذلك أن الظروف والصراعات الإقليمية والدولية زادت من حرج الموقف لكل الأطراف. في هذا الإطار تحديداً ولدت ظاهرة الإرهاب. بعبارة أخرى الإرهاب كان، في أغلبه على الأقل، هو نوع من الصدام بين "الفكر التنموي للدولة" و"الخطاب الديني الإقصائي" الذي يستظل بظل الدولة. ثم يأتي مفهوم "الأمن الفكري"، ليسير في اتجاه إنتاج التجربة نفسها، خاصة أنه كما يبدو من إنتاج أصحاب الخطاب الديني الإقصائي نفسه. سبق للكاتب السعودي، حمزة المزيني، أن تساءل عن إن كانت الأحادية التي خرجت من عباءتها ظاهرة التطرف، يمكن أن تقدم حلاً ناجعاً لها. وهو محق في تساؤله هذا. Classifications