خلال الشهر الماضي وفي أحد اللقاءات التي جمعت مديري مصالح الاستخبارات بدولة أجنبية، انتحى بي جانباً أحد الزملاء ومدير للاستخبارات في دولة غربية حليفة ليطرح عليَّ السؤال التالي: لماذا تستهلك واشنطن نفسها في النقاش حول ما قامت به وكالة الاستخبارات المركزية \"سي آي إيه\" في الماضي، فيما الانشغالات الأمنية الأكثر إلحاحاً هي تلك التي تكمن في الحاضر؟ والحقيقة أن السؤال مهم للغاية؛ لأنه ألقى الضوء على قلقي الشخصي من أن تركيزنا المتزايد على الماضي بات يهدد بتشتيت انتباه \"سي أي إيه\" عن مهامها الأساسية الحالية، والمتمثلة في جمع المعلومات وتحليلها إضافة إلى القيام بالعمليات السرية. ولئن كان من المهم في نظامنا الديمقراطي أن تخضع الاستخبارات لرقابة الكونجرس، إلا أنها أيضاً تعتمد على التوافق بقدر ما تعتمد على السرية في أداء مهامها، ولذا فنحن في حاجة إلى اتفاق موسع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية حول ما يتعين على أجهزتنا الاستخبارية القيام به، ولماذا، وهو الأمر الذي دأبنا على القيام به على امتداد التاريخ الأميركي. ولكن في السنوات الثماني الماضية، لا سيما في مسائل الاعتقال واستنطاق الإرهابيين، لاحظنا تدهوراً مستمراً في التوافق بين السلطتين، وهو ما ساهم في تكريس أجواء من عدم الثقة وتنامي الإحباط، فضلاً عن توالي التسريبات لبعض المعلومات السرية. وبعد قدوم أوباما إلى البيت الأبيض، حرصت إدارته على إدخال بعض التعديلات على العمل الاستخباري أنهت بموجبها الممارسات المثيرة للجدل، بحيث تخلت وكالة الاستخبارات المركزية عن تشغيل مواقع الاعتقال السرية، كما توقفت عن استخدام تقنيات الاستنطاق \"المتقدمة\". ومع أن الوكالة تعمل على تنفيذ القرارات الرئاسية ولا تصدرها، إلا أنها مازالت تدفع ثمن الخلافات المتواصلة حول سياسات لم تعد موجودة. ومفهوم أن تلك الخلافات التي تشيع مناخاً من الشك والاستقطاب الحزبي في واشنطن هي آخر ما نحتاجه نحن هنا داخل الوكالة. وإدراكاً مني لضرورة إقامة التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، لتسهيل عمل الاستخبارات، فإن هدفي الأساسي هو فتح الحوار وبناء الثقة مع الكونجرس، وتبديد الكثير من الشكوك التي تراكمت على مدى السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أطلعت لجنة مراقبة الاستخبارات في الكونجرس بتاريخ 24 يونيو الماضي على برنامج سري علمت به قبل ذلك بيوم واحد فقط، هذا البرنامج الذي لم يفعل أبداً بصورة كاملة وفشل على مدار السنوات السبع السابقة في توقيف إرهابي واحد في شوارعنا، كما أن المعلومات المتعلقة به لم يتم تقاسمها بالشكل المناسب مع الكونجرس. وبالنسبة لي، لم يكن قراري بإطلاع الكونجرس على البرنامج مجرد مسألة يفرضها القانون، بل جسدت أيضاً إيماني العميق بضرورة إقامة علاقة واضحة وشفافة مع الكونجرس تستطيع حشد التأييد للعمل الاستخباري؛ لأن هذا ما أُريده، وهذا ما أعتقد أن بلدنا في حاجة إليه. ولكن، للأسف، بدلًا من أن تشكل جلسة الاستماع التي عقدتها مع لجنة الكونجرس فرصة لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين \"سي أي إيه\" والكونجرس عادت بنا إلى الماضي لتنغمس في جولة أخرى من إلقاء الاتهامات! وإذا كان التوتر في العلاقة جزءاً من الدور الرقابي الذي يمارسه الكونجرس، إلا أن هناك أيضاً مسؤوليات مشتركة، من ضمنها حماية المعلومات السرية التي تحيط بحواراتنا، بحيث يتعين على الكونجرس والوكالة إقامة التوازن الضروري بين الرقابة المطلوبة من جهة والإقرار من جهة أخرى بأن أمن الولايات المتحدة يعتمد على وكالة الاستخبارات المركزية؛ ولذا ينبغي جعلها متفرغة تماماً لمهمتها. وقد آن لـ\"الديمقراطيين\" و\"الجمهوريين\" معاً أن يأخذوا نفساً عميقاً ويعترفوا بحقيقة ما جرى غداة 11 سبتمبر 2001، فالمسألة هنا ليست مرتبطة بمدى نزاهة ووطنية الأشخاص الذين تعاملوا مع الموقف بعد الهجمات، فقد دخل البلد حالة من الذعر وحاول القادة السياسيون القيام بكل ما يستطيعون، وفي غمرة اتخاذ القرارات الصعبة ارتكبت بعض الأخطاء، دون شك، ولكن ذلك ينبغي ألا يشوه صورة الموظفين الذين كانوا يؤدون مهامهم في إطار الاستشارة القانونية التي حصلوا عليها. وبالطبع، جاءت الانتخابات الرئاسية الأخيرة لتعلن رغبة الأميركيين في تغيير الاتجاه. وفيما تشكل المعلومات الاستخبارية سلاحاً مهمّاً في مواجهة الأخطار الخارجية، علينا أيضاً ألا نستخدمها ضد بعضنا بعضاً، وكما صرح الرئيس فليس الآن وقت العقاب، ذلك أن النقاشات حول: مَن كان يعرف ماذا ومتى؟ أو ما الذي وقع قبل سبع سنوات؟ تضيع النقطة الأهم المتمثلة في أننا أمة تخوض حرباً في عالم خطر تكتسي فيه المعلومات الاستخبارية أهمية قصوى. وهذا بالذات ما يتعين التركيز عليه، فالوكالة مازال في جعبتها العديد من الوسائل لمحاربة \"القاعدة\" وحلفائها. وخلافاً للجهود التي ألغيتها في شهر يونيو الماضي، تتميز الوسائل الحالية بالفعالية، ونحن اليوم نستخدمها بعلم تام من الكونجرس. ولا ننسى الزيارة التي قام بها الرئيس أوباما إلى مقر وكالة الاستخبارات المركزية في شهر أبريل الماضي عندما قال للضباط \"إنني سأحتاجكم أكثر من أي وقت مضى\"، فالرئيس يدرك أن رجال ونساء \"سي آي إيه\" يقفون في الخطوط الأمامية للدفاع عن أميركا، وهم يواجهون الأخطار ويبذلون التضحيات لجمع المعلومات التي تحتاجها بلادنا لضمان أمنها وسلامتها. ومن خلال تجربتي في مجلس النواب الذي قضيت فيه 16 عاماً، أعرف جيداً أن الكونجرس يستطيع الحصول على الحقائق التي يريدها دون الدخول في صراعات أو تبادل التهم الجزاف، كما أعرف أنه باستطاعتنا الاستفادة من دروس الماضي دون أن نعلَق في مستنقعه، وهو ما ينتظره الشعب الأميركي من الوكالة التي تدرك بعمق أن البلد يستحق الأفضل. ليون بانيتا مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست\"