يذكر القراء أننا كنا قد ختمنا سلسلة المقالات، التي خصصناها للأزمة المالية الاقتصادية العالمية الراهنة، بمقال بعنوان "شراء المستهلكين... هو الحل!" (09- 06-2009 )، كان مما ورد فيه الإشارة إلى أن (الوسائل التقنية الحديثة، التي بعد أن حلت محل "عضلات العمال" في المناجم والمصانع وورشات الأشغال الكبرى فأنتجت مزيداً من البطالة -هي التي باتت تختار للناس "ما يختارون" مما يفرغ كلًا من "تكافؤ الفرص" و"التعبير الديمقراطي الحر" اللذين هما شعار الديمقراطية الليبرالية، من كل مضمون)، ثم تساءلنا: "هل يعني هذا أن "التقنية" هي المسؤولة عن الانحرافات التي وقعت فيها الديمقراطية الليبرالية"؟ وكان الجواب: "سؤال لا يريد المنخرطون في العملية الرأسمالية العولمية الاستماع إلى الذين طرحوه منذ قرن من الزمن أو يزيد. وسيكون علينا استعادة هذا السؤال والأجوبة التي قدمها له من طرحوه، وهم بالتحديد أبرز فلاسفة الغرب في القرن العشرين". كان من المفروض إذن أن يكون موضوع المقال التالي وما يليه عن دور التقنية الحديثة في أزمات الرأسمالية وبالتحديد استعادة آراء فلاسفة القرن العشرين الذين نبهوا إلى دور التقنية في أزمات الرأسمالية. غير أن خطاب أوباما في القاهرة (04-06-2009) الموجه إلى العرب والمسلمين قد وضعنا أمام ضرورة تحليله وبيان خصائصه وحدود وعوده، قبل أن يتقادم ويصبح نسياً منسياً، كما هو شأن الخطب السياسية جملة. واليوم وقد انتهينا من هذه المهمة نعود إلى الموضوع الذي كنا وعدنا به، مستهلين حديثنا عنه بملاحظات أولية: أولاها تطرح مسألة لغوية. ذلك أن لفظي "التقنية" و"التقانة" اللذين درجنا على استعمالهما في العقود الأخيرة لا يحيلان على المضمون نفسه في اللغات المعاصرة التي تنتج العلم الحديث، مفاهيمه وآلاته وآليات تطبيقه... إلخ، وتطلق عليهما اسمين من لغتها. ذلك أنه ليس واضحاً أن لفظ "التقنية" ورديفه "التقانة" (سواء بكسر التاء المشددة أو فتحها أو ضمها)، هل هما تعريب للفظ "تكنيك" ِtechnique أم أنهما مشتقان من مادة "تقن" وبالتحديد من "أتقن". "أتقن: وأَتْقَنَ الشيءَ: أَحْكَمَهُ... ورجل تِقْنٌ وتَقِن: مُتْقِنٌ للأشياء حاذِقٌ" (لسان العرب). ذلك أنه في الحالتين، وبغض النظر عن بُعد دلالة هذين اللفظين عن مضمون ما يراد التعبير عنه بمقابلهما في اللغات المعاصرة، فإنه لا يمكن الانتقال بواسطتهما إلى مضمون الاصطلاح العلمي المعاصر: تكنيك، technique وتكنولوجيا technologie. وفي نظري، أنه من الأفضل في هذا المجال اللجوء إلى التعريب، بدل الترجمة، فنقول "تكنيك" و"تكنولوجيا"، كما نقول: جيولوجيا (علم الأرض) وإبستيمولوجيا (علم العلم)، وجغرافيا (وصف الأرض) وسكولوجيا، وسيوسيولوجيا... إلخ. ذلك أن النقطة الأهم في هذا الصدد هي أنه لا لفظ "التقنية" ولا لفظ "التقانة" يمكن أن يؤديا كامل معنى مصطلح "تكنولوجيا"؛ لأن اللفظ العربي (تقنية، تقانة) لا يعبر عن جزء أساسي في كلمة "تكنولوجيا"، وهو اللاحقة "لوجيا" logie، التي تفيد معنى "العلم". (من اليونانية logia بمعنى نظرية، وهذا من logos بمعنى "الخطاب". وإذن، فاللاحقة "لوجيا" تفيد معنى الخطاب العلمي، أو الدراسة المنهجية، كما في جيولوجيا علم الأرض، وبسيكولوجيا علم النفس، وسوسيولوجيا علم الاجتماع... إلخ. أما لفظ تكنولوجيا، فهو من أصل يوناني تخني - تكني- الذي يفيد معنى "حرفة"، "طريقة"، وبالتالي يمكن القول إن المعنى الأصلي لكلمة "تكنولوجيا" هو طريقةُ أو منهجيةُ ممارسةِ الحرفة أو المهنة، فهو يجمع بين العمل اليدوي والعمل الفكري، أو العمل اليدوي الذي يمارس بتوجيه من الفكرة، وليس الذي يمارس بعفوية ويعتمد التجربة والخطأ. والملاحظة الثانية، أن هناك نوعاً من الخلط بين لفظي technique و technologie. ذلك أن اللفظ الثاني قد حل محل الأول في فرنسا بفعل تأثير انتشار "الإنجليزية" بعد الحرب العالمية الثانية، وأيضاً لكونه يفيد "العلم" (logie)، ومع ذلك ارتأى بعضهم الاحتفاظ باللفظ الأول لخفته على اللسان، مع صرف معناه إلى الدلالة على "أية صيغة تركيبية لعناصر يقوم به فرد -أو جماعة- يعرف النتيجة التي ستحصل بذلك التركيب". ويدخل في ذلك بالدرجة الأولى ما يقوم به الكائن الحي من تعديل في محيطه يعود عليه بالنفع. وفي هذا المعنى العام ينسب إلى أوسوالد شبنغلر قوله «إن التكنيك "هو بصفة عامة "مناورة" (تكتيك) الحياة». بينما أرتأى باحث آخر تعريف التكنولوجيا بكونها "مجموع الأدوات التي يصنعها الإنسان ويستعملها لصنع وعمل أشياء بواسطتها". وبهذا المعنى، تكون التكنولوجيا تعني: استعمال الأدوات التقليدية والماكينات والمنظومات الرمزية الثقافية، مما يجعلها متماهية مع "كلية المعرفة". ومن هنا، نصل إلى الملاحظة الثالثة، وهي أن التكنولوجيا بوصفها متماهية -في الفكر المعاصر- مع "كلية المعرفة" لا يمكن عزلها عن العلم ولا عزل العلم عنها. فالحديث عن التكنولوجيا اليوم ينصرف إلى التكنولوجيا العلمية، تكنولوجيا العلم الحديث والمعاصر. أعني العلم الذي يعني: إضفاء الصبغة المكانيكية على الظواهر مع الصياغة الرياضية للفيزياء التي ابتدأت في القرن السابع عشر مع علماء كان أبرزهم في هذا المجال العالم الإيطالي غاليليو غاليلي (1642- 1564). لقد حصلت تطورات في العلاقة بين العلم والتكنولوجيا منذ غاليلي، تطورات حملت أحد المختصين على صياغة تعريف معاصر للتكنولوجيا كما يلي: "تبدو التكنولوجيا الآن كمعرفة منظمة مؤسسة على مبادئ، الشيء الذي لم يعد يمكن معه وصف (التكنيك) بأنه (تكنولوجيا) إلا إذا قدم نفسه في شكل نظرية. إن التكنولوجيا تتعارض مع التكنيك التجريبي الذي يمكن تعريفه بأنه ممارسة عملية تعتمد على قواعد غير مصوغة صياغة نسقية، قواعد تأتي في الأغلب الأعم نتيجة العفوية والمحاولة غير الموجهة والتعامل اللحظي مع الواقع، وليس نتيجة تفكير وتجربة". وبعد هذه الملاحظات التمهيدية يمكننا، فيما نعتقد، الانتقال إلى صلب موضوعنا، إلى فحص العلاقة الخفية/ الظاهرة بين التكنولوجيا وأزمات الرأسمالية. والبداية ستكون من فحص نقدي لنشأة التكنولوجيا الحديثة وعلاقتها بالواقع الإنساني المعيش. وهو الموضوع الذي دشن القول فيه الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل Edmund Husserl (1859-1938) فيلسوف الفينومينولوجيا (علم الظاهرات) وأيضاً صاحب كتاب "أزمة العلوم الأوروبية". وينطلق هوسرل في هذا المجال من التحول الذي عرفه العلم مع غاليلي والعلماء المعاصرين له حينما أصبحت الطبيعة، موضوع العلم بامتياز، خاضعة لقوانين الرياضيات ومفاهيمها مما أدى إلى نشوء "كائنات رياضية" مستقلة عن الإنسان وعن حياته اليومية وتطلعاته، كائنات هي موضوعات تقع خارج العالم الذي يعيشه الإنسان، ولذلك توصف بكونها "موضوعية" objectives، أي أن وجودها يقع خارج العالم المعيش، خارج "الذات". والنتيجة أن الانقطاع إلى التعامل مع هذه "الكائنات" العلمية، وبعبارة أخرى مع القوانين العلمية بعيداً عن الواقع المعيش يقود إلى نسيان العالم بوصفه "أفقاً" وباعتباره "قصدية"، وستتكرس هذه الظاهرة وتتعمق مع استعمال "الجبر"، حيث سيصبح مفهوم العدد فارغاً من "المعدود"، لا علاقة له بالمحتويات المادية، وبالتالي ستتخذ الطبيعة شكل معادلات وقوانين صورية رمزية وسيتحول العمل العلمي إلى نوع من الممارسة الحرفية الآلية، يجري خلالها نسيان الحياة اليومية بوصفها الأساس الذي قامت عليه المعرفة العلمية أول الأمر، وسيؤدي هذا النسيان بدوره إلى وقوع العلم في نوع من "الغربة" أو الاغتراب، وهنا تكمن أزمة العلوم الحديثة حسب هوسرل. إنها أزمة تتمثل في اختفاء معاني الأشياء المعطاة في عالمنا المعيش وراء الصياغة الصورية الرمزية التي تمارس دون استحضار مضمونها مما يجعل التفكير العلمي عبارة عن نشاط حرفي (تكنيك) تقوده العادة والتدريب وليس التأمل والإبداع. وهكذا تنكشف حقيقة العلاقة بين العلم والتكنولوجيا في الممارسة العلمية الحديثة: فليست التكنولوجيا مجرد تطبيق للعلم كما يبدو الأمر في بادئ الرأي، بل إنها محايثة للعلم على صورة معارف نظرية. والخلاصة أنه بنسيان العالم المعيش، علم التجربة اليومية، بسبب طغيان الصياغة الصورية الرياضية واندماج التكنولوجيا في العلم، يسود الاعتقاد لدى العلماء، ولدى الخاصة عموماً، بأن العالم الحقيقي هو ذلك الذي تقدمه القوانين والنظريات العلمية! أما العالم الذي يعيشه الإنسان بحواسه وشعوره وتطلعاته، فهو مجرد تعبير ذاتي نسبي عن العالم الحقيقي! وهنا تكمن خطورة "النزعة الموضوعية" التي تسود في العلم الحديث، والتي تؤدي إلى وقوع البحث العلمي خارج المسؤولية إزاء الإنسان، خارج أي أفق إنساني. إن الأبحاث العلمية في مختلف القطاعات تتقدم بخطى حثيثة، ولكن أتوماتيكية ومستقلة، ودون استحضار "المعنى الشامل" الذي تندرج فيه. إن العلم والتكنولوجيا يبدوان اليوم كما لو أنهما آلة رهيبة تسير حسب قانونيتها الداخلية وتحمل في ذاتها غائيتها الخاصة. إن هيمنة النزعة العلمية- التكنولوجية، والعقلانية الأداتية، هي المسؤولة -حسب هوسرل- عن "أزمة المعنى" في العالم المعاصر.