طوال فترات التاريخ البشري المختلفة، شكلت الحيوانات مصدراً مهماً ومتجدداً لمجموعة من الأمراض المتنوعة التي تصيب الإنسان، وهي النوعية المعروفة بالأمراض المشتركة بين الإنسان والحيوانات (Zoonosis)، والتي يمكن تعريفها على أنها أي مرض معدٍ، يمكنه الانتقال من الحيوانات سواء المستأنسة أو البرية إلى الإنسان، إما مباشرة أو عن طريق ناقل من الحشرات، أو أن تنتقل، على العكس، من الإنسان إلى الحيوانات. وهي بشكل أكثر دقة، الأمراض التي تصيب غالباً الحيوانات، ويمكنها أيضاً إصابة الإنسان. ويبلغ تعدد وتنوع أمراض هذه المجموعة درجة أنها أدت إلى ظهور تخصص وفرع جديد ومستقل في العلوم الطبية (Conservation Medicine)، يجمع بين الطب البشري والطب البيطري والعلوم البيئية، ويعنى بدراسة العلاقة بين صحة الإنسان، وصحة الحيوان، والظروف البيئية التي يعيش فيها كلاهما. وحتى قبل ظهور هذا الفرع الطبي الجديد نسبياً، لطالما خصصت العديد من المراجع الطبية والموسوعات العلمية فقط لاستعراض الأمراض المشتركة بين الإنسان والحيوان. وربما كان أفضل سبيل لإظهار أهمية وفداحة هذه الطائفة من الأمراض، هو ذكر أسماء بعض أفرادها، مثل الجمرة الخبيثة، والكوليرا، وجنون البقر، والإيبولا، والطاعون، والسعار أو داء الكلَب، وحمى الوادي المتصدع، وفيروس النيل الغربي، والحمى الصفراء، بالإضافة إلى انفلونزا الخنازير. وحتى أمراض أخرى، مثل الحصبة، والجدري، والانفلونزا العادية، وفيروس البرد الشائع، وفيروس الإيدز، وميكروبات الدفتيريا، ومرض السل، يعتقد البعض أيضاً أنها ذات أصول حيوانية كذلك. وكل هذه الأمراض، لا تشكل إلا جزءاً بسيطاً من الأمراض المشتركة بين الإنسان والحيوان، والتي يتخطى عددها العشرات من الأمراض غير الخطيرة، أو الخطيرة. وبناء على هذه الخلفية، من السهل أن ندرك أن الأمراض المشتركة بين الإنسان والحيوان، كانت دائماً من الثوابت الصحية في رحلة الإنسان على كوكب الأرض. وإن كانت هذه العلاقة دائماً ما تشهد تغيرات على صعيد مدى انتشار أو انحسار مرض ما في وقت ما، وهو المفهوم المعروف طبياً بالأمراض المعدية المتصاعدة (Emerging Infectious Diseases)، والذي قد ينطبق على الأمراض التي تنتقل، عن طريق الحيوانات. ولكي يتمتع مرض معدٍ بصفة (المتصاعد Emerging)، لا بد أن تكون قد حدثت زيادة في معدلات انتشاره بشكل واضح خلال العقدين الماضيين، أو يعتقد أنه يحمل خطر الانتشار على نطاق أوسع خلال المستقبل القريب. ولكن ما هو السبب أو الأسباب التي تدفع بمرض كامن أو محصور إلى حد ما، لدخول مرحلة التصاعد؟ الحال أن إجابة هذا السؤال ليست سهلة أو مباشرة، حيث تتوقف على العديد من العوامل والظروف الخارجية. فعلى سبيل المثال، إذا ما تمكن الميكروب من إحداث تغير في تركيبته الوراثية، من خلال الانجراف الجيني (Genetic Drift) أو التحول الجيني (Genetic Shift)، وبدون وقوع طفرة وراثية كاملة، فيمكن ساعتها أن يزداد انتشاره بشكل كبير، وأن يتمتع بصفة التصاعد. وأفضل مثال على ذلك هو فيروس انفلونزا الخنازير، الذي بدأ كمرض مشترك بين الإنسان والحيوان، محصوراً إلى حد كبير. ولكن عندما تمكن من إحداث تغيير في تركيبته الوراثية، شهد تزايداً هائلًا في درجة انتشاره، ليصبح حالياً مرضاً معدياً متصاعداً. والسبب الآخر في تصاعد بعض الأمراض، هو التغيرات المناخية التي تشهدها الأرض حالياً. فالأمراض المُعدية التي كانت تنتقل عن طريق الحشرات، مثل فيروس النيل الغربي أو الحمى الصفراء، أدت ظاهرة الدفء العالمي إلى اتساع النطاق المناسب لحياة وتكاثر البعوض الناقل لها، وهو ما أدى، بالتبعية، إلى اتساع نطاق تلك الأمراض أيضاً. وأحياناً ما يؤدي التطور التقني والاقتصادي للمجتمعات البشرية إلى المساعدة على تصاعد بعض الأمراض المعدية، كما هي الحال مع فيروس مرض \"سارس\". ففي ظل توافر وسائل المواصلات السريعة والسهلة عبر القارات، تمكن هذا الفيروس في غضون وقت قصير من أن ينتقل إلى أركان العالم الأربعة، وهي المرحلة التي ربما كانت ستستغرق سنوات وعقوداً، لو كان هذا الفيروس ظهر قبل قرن واحد من الزمان. وتلعب السلوكيات البشرية، خصوصاً التجارية منها، دوراً مماثلًا في تصاعد الأمراض المعدية، مثلها في ذلك مثل التطورات التقنية والاقتصادية. فعلى سبيل المثال، أدى الإفراط في استخدام المضادات الحيوية في تربية الأبقار بهدف زيادة إنتاج اللحوم، إلى تولد مقاومة بين الميكروبات، فيما أصبح يعرف بـ\"السوبر بكتيريا\"، وبالتالي تصاعدت الأمراض المعدية التي تتسبب فيها تلك الميكروبات. وعلى الصعيد نفسه، أدى غزو الغابات والمناطق النائية، التي لم تطأها قدم بشر أحياناً، بغرض قطع الأشجار للحصول على أخشابها، أو حفر المناجم للحصول على المعادن الثمينة، إلى حدوث اتصال لأول مرة بين الإنسان وبين أنواع من الحيوانات والحشرات والميكروبات والفيروسات لم تكن معروفة من قبل. وقد يذهب السلوك البشري التدميري إلى أبعد من ذلك، كما في حالة الاضطرابات السياسية، والصراعات المسلحة، وهي ما ساعد على انتشار وباء الكوليرا في زيمبابوي العام الماضي بسبب القلاقل السياسية التي كانت تمر بها تلك الدولة الأفريقية خلال ذات الفترة وأدت إلى انهيار نظام الرعاية الصحية فيها. وقبل ذلك، انتشار مماثل للكوليرا في العراق، في الشهور التي تلت الغزو الأميركي، وما أدى إليه من انهيار نظم الصرف الصحي وسبل الحصول على مياه شرب نظيفة. وكل هذه العوامل مجتمعة، وغيرها كثير، تجعل من تصاعد الأمراض المعدية، خصوصاً المشتركة بين الإنسان والحيوانات، واقعاً صحياً فادح الثمن. د. أكمل عبد الحكيم