عجيب كم هو ثابت الوضع دائم التوتر والتصعيد في هذه المنطقة الاستراتيجية الأكثر تأثيراً على أمن العالم واستقراره ورخائه وموارد طاقته. ثلاث حروب طاحنة ومدمرة خلال العقود الثلاثة الماضية. وعجيب كم هي عميقة وجذرية مستويات التغيير في الأمن الخليجي من تحالفات واصطفافات، وكيف تبدل حلفاء الأمس إلى خصوم اليوم، وبالعكس. والمتغير كان دائماً سياسات الدول الكبرى الإقليمية كالعراق وإيران، والقوى الخارجية -الولايات المتحدة الأميركية. وكأننا بحاجة إلى تذكير، سواء في الكويت أو في المنطقة، بمرور الذكرى التاسعة عشرة على غزو واحتلال الكويت من قبل جيش صدام، فبعد كل تلك السنين، مازالت العقول والقلوب بين الكويت والعراق حبلى بغياب الثقة و"التخوين" والردح، ولم يبرأ الجرح بعد أو تمت الهواجس والمظالم. وقد رأينا إرهاصاتها في مواجهات وتصريحات وتشكيك في النوايا واستمرار مطالبات كويتية باستحقاقات لم يحسمها العراق الذي يسعى للخروج من استحقاقات الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وسيلتقي أمير الكويت غداً في واشنطن مع الرئيس أوباما في البيت الأبيض لمناقشة العلاقات الثنائية، وملفات العراق والدعم الأميركي لإخراجه من التزامات الفصل السابع، وخفض نسبة الاستقطاع من عائدات النفط العراقي لصندوق التعويضات من 25 في المئة إلى 5 في المئة. وبالطبع إلى جانب هذه الملفات، ستكون الملفات الأخرى حاضرة بقوة أيضاً. وسيكون ملف اقتراح وزيرة الخارجية الأميركية الذي أُعلن بشكل مفاجئ عن مظلة أمنية لدول المجلس في حال توصلت إيران إلى قدرات نووية من الملفات التي سيتم بحثها كذلك. المتغير العراقي معروف تحت حكم صدام ومغامراته وحساباته الخاطئة. والمتغير الإيراني متمثل في انتقالها من التحالف مع واشنطن في حقبة الشاه وتأمين الأمن الخليجي واستراتيجية العمودين التوأمين، إلى العداء الكلي مع "الشيطان الأكبر" في عهد الثورة. والجديد اليوم، بل المتغير الكبير، هو تداعيات برنامج إيران النووي، ومشروعها الإقليمي، وتقوية أوراقها في الخارج، زيادة على مخاضها الداخلي الصعب بعد انتخابات الرئاسة، الذي لم يُحسم بعد. وكانت الديباجة الإقليمية الأهم مع بدايات الثورة هي فكرة تصديرها، وعلى رغم عدم واقعيتها، إلا أنها كانت مزعجة بالنسبة لنا في دول الخليج. والمتغير الآخر على رغم ثباته هو التقلب في السياسات الأميركية تجاه مختلف اللاعبين في المنطقة، من عدم التدخل المباشر والاعتماد على القوى الإقليمية وفق "مبدأ نيكسون"، إلى التهديد بالذهاب إلى الحرب لحماية مصالحها في الخليج بعد احتلال السوفييت لأفغانستان، مروراً بسياسة "الاحتواء المزدوج" للعراق وإيران، أي "مبدأ كلينتون"، دون إغفال التدخل المباشر وحماية ناقلات النفط الكويتية ضد إيران في الثمانينيات. وصولاً إلى الوجود العسكري الدائم منذ تحرير الكويت وإسقاط نظام صدام، وتوقيع اتفاقيات أمنية، وزرع قواعد عسكرية في المنطقة. وقبل هذا وذاك استخدام واشنطن للقوة المفرطة -مبدأ الحرب الاستباقية- واحتلال دول وإسقاط أنظمة -مبدأ محاربة "محور الشر"- كما فعل الرئيس بوش. وانتهاءً بعروض صفقات وأيدٍ ممدودة لإيران، والسعي لإخراج العراق من قيود الفصل السابع واستحقاقاته تجاه الكويت، وتسليحه بقوة طائرات F16 ودبابات "أبرامز" المتطورة، ليعود مجدداً قوة إقليمية تعادل إيران! وماذا عن الكويت والخليج؟! أما الثابت الأول في الأمن الخليجي، فهو بدرجة كبيرة حكر علينا، حيث لم ننجح بعد عقدين من غزو صدام للكويت، وعلى رغم التنسيق والتعاون والاتفاقيات الأمنية فيما بيننا، في تشكيل تحالف أمني شبيه بتحالف تجمع "آسيان" مثلاً في شرق آسيا، بكيفية تشكل كتلة أمنية متراصة، وتساعدنا على تقليص الاعتماد شبه الكلي على "الأمن المستورد"، وعلى رأس القوى الدولية في منطقة الخليج الولايات المتحدة الأميركية، التي تريد وزيرة خارجيتها هيلاري كلينتون أن تشملنا بمظلة أمنية مبهمة، لم يصدق عليها البيت الأبيض. والثابت الخليجي الثاني هو غياب التفكير الاستراتيجي الجماعي لدول المجلس، وتأثرنا بتجاذبات الأمن والاستقرار أكثر من تأثيرنا في المعادلة الأمنية، أو في قضايا مثل الملف النووي الإيراني، والعراق، والتقارب الأميركي- الإيراني، وسط مخاوفنا من صفقة أو صفعة يتحكم فيها الآخرون، ويكاد دورنا يقتصر على المتابعة والرصد والقلق والأماني. والثابت الثالث أن من يتحكم في قرار الأمن والسلم في منطقتنا الاستراتيجية هم الآخرون. وليس نحن -إنهم الأميركيون والإيرانيون وحتى الإسرائيليون، بخططهم وسياساتهم ومصالحهم. والثابت الرابع أن العسكرة وإنفاق عشرات المليارات خلال العقدين الماضين لم تجعلنا نشعر بالأمن والاستقرار. وأُضيفت للعسكرة مخاوف إدخال العامل النووي ممثلاً في البرنامج النووي الإيراني، والحديث عن استمرار التخصيب، والتصعيد، والمواجهات مع المجتمع الدولي، وسط عودة الحديث مجدداً عن احتمال عمل عسكري إسرائيلي رأينا بسببه تقاطر المسؤولين الأميركيين على تل أبيب، بطريقة غير مسبوقة، للجم إسرائيل عن استهداف المنشآت النووية الإيرانية بعمل من شأنه أن يزعزع الأمن ويهدد بتداعيات خطيرة في المنطقة من أفغانستان إلى البحر المتوسط مروراً بالعراق والخليج ومضيق هرمز، ويؤثر سلباً على أمن الطاقة. ومرة أخرى، نجد أنفسنا في قلب العاصفة، ولا نملك الكثير من التأثير على المعطيات التي تهدد أمننا. وبين الثابت والمتغير نبقى في دول المجلس على ثوابتنا، بينما يستمر الآخرون الفاعلون والمؤثرون من لاعبين إقليميين، خاصة إيران والعراق الجديد، أو خارجيين مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، على متغيراتهم بما يتناسب ويوظف ويخدم مصالحهم. لقد آن الأوان لأن نكون لاعبين بثوابت أقل، وبمتغيرات أكثر، يعاد النظر فيها، ويُعاد تقييمها وتوظيفها، بما يجعلنا لاعبين مشاركين ومؤثرين في صياغة حاضر ومستقبل منطقتنا.