لم تكد الفرحة بإتمام الانتخابات البرلمانية اللبنانية في مناخ سلمي تكتمل حتى بدأ الكدر بالحديث عن الثلث المعطل، ثم زاد الكدر بلجوء الخصوم إلى السلاح مساء الأحد الماضي. كان الحديث عن الثلث المعطل يكفينا فإذا بهذه الأحداث تذكرنا بما وقع في مايو 2008. عجبتُ لفكرة الثلث المعطل التي كانت ضرورية في إدارة أزمة سياسية محتقنة في لبنان، والتي يكون بموجبها للمعارضة حق إعدام أي قرار ينوي مجلس الوزراء اتخاذه. وكانت ضرورتها حينذاك تنبع من استحالة أن يتقدم لبنان على صعيد الحل دون رضا جميع الأطراف، خاصة وقد استفحلت أزمة الفراغ السياسي بالعجز عن انتخاب رئيس للجمهورية، وأزمة الفراغ التشريعي بتعطيل مجلس النواب عن العمل، وأزمة الفراغ التنفيذي بأن مجلس الوزراء بعد استقالة الوزراء الشيعة المنتمين للمعارضة فقد صفته "الميثاقية" أو روح "العيش المشترك". لكن الأمور في أعقاب الانتخابات البرلمانية الأخيرة اختلفت بالتأكيد، فقد رسخت "الموالاة" أقدامها في الحكم بأغلبية أربعة عشر مقعداً، صحيح أن هذا الفارق "النيابي" لا يعكس بالضرورة "الثقل السياسي النسبي" لطرفي اللعبة السياسية في لبنان. إلا أنه فارق محسوس تستطيع الأغلبية بموجبه أن تشكل حكومة بأغلبية مريحة، ويمكن للمعارضة أن تشارك في هذه الحكومة ليس بالضرورة من خلال ثقلها النيابي، لأن الحكومة في هذه الحالة ستكون "بطة عرجاء" لا تستطيع العمل إلا بصعوبة فائقة بالنظر إلى اختلاف الأولويات بين الطرفين، وتستطيع المعارضة أيضاً أن تبقى معارضة وحسب. تمارس ما تمارسه المعارضة في أي نظام برلماني. وتحتكم في النهاية ديمقراطياً إلى الشارع السياسي حين تحين الانتخابات القادمة. حاولت أن أقارن ما يحدث في لبنان بما شهدته الساحة السياسية الأميركية مؤخراً، وأياً كان الخلاف حول الجديد الذي سيأتي به أوباما فإن ثمة اتفاقاً على أن نقلة تاريخية قد حدثت في الساحة السياسية الأميركية، فقد تولى الرئاسة شخص محسوب على الأقلية الأفريقية. لم تقم قيامة الدنيا. بل على العكس كان الابتهاج بالميلاد الجديد غلاباً، ولم يطالب الخاسرون بأن يكونوا شركاء في الحكم، والساحة الآن مفتوحة أمامه يفعل فيها ما يشاء إلى أن يحين أوان المحاسبة بعد أقل من أربع سنوات، وبالتأكيد فإن هناك في الولايات المتحدة من يكره أوباما كراهية التحريم. لكن أحداً لا يجادله في سلطاته، ولكنه ينتقد سياساته ويراقبها، وبالمقابل فإن أوباما يحافظ على روح "العيش المشترك" بلغة السياسة اللبنانية، فيدخل في إدارته عناصر من إدارة سلفه، ويضع بعض هذه العناصر في مواقع بالغة الأهمية كوزارة الدفاع في تمييز واضح بين ما هو "حزبي" تختلف فيه الرؤى وما هو "وطني" يجمع الكل عليه. ازدادت حسرتي عندما تذكرت أن لبنان لا يعاني وحده من "أوجاع ديمقراطية" حادة، ولو بدأنا بأقصى المغرب العربي لوجدنا الحالة الموريتانية التي كنا قد زهونا بها، لأن انقلاباً عسكرياً فيها قد مهد الطريق لحكم ديمقراطي، وأصبحت هذه الحالة مضرب الأمثال، غير أنه في أول صدام بين الرئيس المنتخب وبين المؤسسة العسكرية بادرت الأخيرة بخلعه وتبديد الحلم الديمقراطي. وربما يكون للحالة الموريتانية فضل أن قوى المجتمع المدني لم تستسلم للانقلاب، وأنها ثابرت على معارضته حتى أجبر قادته على الارتداد الوئيد إلى داخل الملعب الديمقراطي، دون أن يسلم هؤلاء القادة بطبيعة الحال بكافة مطالب قوى المجتمع المدني، وما زالت القصة لم تتم فصولا، وإن وجبت الإشارة إلى أن الوسيط الأساسي فيها الآن هو الرئيس السنغالي وليس أي وسيط عربي، لأن الوسيط العربي عندما تدخل بدا أكثر قبولا لنتائج الانقلاب، ومن ثم أقل حيدة من وجهة نظر أنصار الديمقراطية. فإن تركنا المغرب وعدنا مرة ثانية إلى المشرق سوف نجد "أوجاعاً ديمقراطية" من نوع آخر، ولنأخذ الحالة الفلسطينية على سبيل المثال التي جرت فيها انتخابات تشريعية نزيهة في مطلع 2006، وأسفرت عن فوز واضح لـ "حماس" بغالبية مقاعد المجلس التشريعي، وأفضت من ثم إلى حقها في تشكيل الحكومة، غير أن الحصار السياسي لها في ممارسة سلطاتها ناهيك عن الحصار الاقتصادي، أوصل الحركة إلى انتزاع حقها في الحكم بقوة السلاح في يونيو 2007، بكل ما يعنيه هذا من "مفارقات ديمقراطية"، ولأن قاعدة القوة الرئيسية للحركة موجودة في غزة، فإن هذا "الانقلاب الديمقراطي" -إذا جاز التعبير- لم ينجح إلا فيها، ومن ثم أسفرت الديمقراطية عن انقسام سياسي اكتسى رداءً جغرافياً للمرة الأولى في تاريخ حركة التحرر الفلسطيني، وإكمالا للصورة فإن ولاية رئيس السلطة الفلسطينية الحالي قد انتهت في يناير الماضي دون أن تجرى انتخابات جديدة، وإجراؤها بالتأكيد غير عملي في ظل الظروف الراهنة، وهكذا تمزقت الديمقراطية الفلسطينية بين "حكومة مقالة" في غزة ورئيس "منتهية ولايته" في الضفة. وليس هذا بالتأكيد هو البعد الوحيد في "أوجاع الديمقراطية" في فلسطين، بل قد لا يكون هو الأهم، فقد حملت إلينا الأنباء مؤخراً نبأ إفراج سلطات الاحتلال عن رئيس المجلس التشريعي المنتمي لحركة "حماس"، وكانت قد اعتقلته مع عديد غيره من أعضاء المجلس المنتمين للحركة ذاتها، ويعني هذا أننا وإن كنا نركز دوماً على المعوقات الداخلية في تفسير عثرات الديمقراطية في وطننا العربي فإنه من غير الممكن من ناحية أخرى أن نتجاهل دور العوامل الخارجية في وأد الديمقراطية الجنينية على الأرض العربية، وهو ما يذكرنا بواقع العراق الذي يكشف عن مفارقة هائلة صنعتها قوات احتلال دخلته بزعم الإطاحة بنظام حكم ديكتاتوري لتقيم على أنقاضه دولة جديدة عانت وما زالت تعاني مما يعرفه الكافة، وبصفة خاصة من ديمقراطية شوهاء اكتست البعد الطائفي، وتطورت تحت سقف الاحتلال، فاستحقت بذلك أن ترفض من فصائل لها وزنها في الساحة العراقية. ولا ينفرد المغرب والمشرق العربيان بـ"أوجاع الديمقراطية"، ففي دول شبه الجزيرة العربية تدور التجربة الديمقراطية الأكثر رسوخاً في الكويت في حلقة مفرغة: برلمان ينتخب، وتهم توجه لرئيس الحكومة أو بعض أعضائها أو أحدهم إلى أن تقترب الممارسات من الخطوط الحمراء فيحل البرلمان، وتجرى انتخابات جديدة لكي تعود الأمور سيرتها الأولى. ومما يكشف "أوجاع الديمقراطية" على نحو أوضح أننا عرضنا فيما سبق للتجارب التي يمكن القول إنها صاحبة إنجاز ما في التطور الديمقراطي. أما باقي التجارب العربية -أو معظمها على الأقل- فهو إما فاقد لمقومات الحديث عن الديمقراطية أصلا، أو قانع بالقدر الضئيل المتحقق منها، أو مقبل على رهانات كبرى ترتبط بها أمور مثل تأبيد الحاكم في موقعه، أو توريث سلطاته، أو بقاء الدولة ذاتها. وليس أقل سوءاً أن المحيط الإقليمي للوطن العربي لا يبدو مبشراً، "فديمقراطية إسرائيل" محتجزة ليهودها فحسب، وهي تجهض أي أمل في تطور ديمقراطي طبيعي في فلسطين، وديمقراطية إيران لا تتسع لرأي المعترضين على نتائج الانتخابات الرئاسية، وحتى تركيا التي تعرف درجة لا بأس بها من التطور الديمقراطي تسمع فيها الآن أصوات لرموز في المؤسسة العسكرية تهدد بأنها لن تسمح بمحاكمة عسكريين بارزين اتهموا بمحاولة الانقلاب على نظام الحكم الراهن في تركيا. يضاف إلى هذا أن الخطاب السياسي للرئيس الأميركي قد تخلى عن محاولات "حفز" التطور الديمقراطي، وهو شيء يحمد له إن صدق وذلك على ضوء التجارب المأساوية للتدخلات الأميركية في الشؤون الداخلية لعديد من الأقطار في عهد سلفه، وعلى رغم ذلك فإن الإشارة واجبة إلى أن سياسة كهذه من شأنها أن تريح كثيراً أعصاب الحكام المستبدين. ويعني ما سبق أن الوطن العربي ما زال حتى هذه اللحظة غير مكتمل النضج على النحو الذي يمكنه من الولوج بثقة في المسار الديمقراطي الحق، وعلى رغم أية مسؤولية خارجية عن هذا الوضع فإن المهمة العسيرة لتوفير متطلبات التطور الديمقراطي تبقى مهمتنا وحدنا دون سوانا.