على الرغم من عمق الأزمة السياسية الإيرانية، لا بد من الإقرار أن مرشح المؤسسة الدينية والتيار المحافظ "أحمدي نجاد" قد فاز في الانتخابات الأخيرة، مهما كان اتساع هامش التزوير في الاقتراع. ولذا من الأصح النظر إلى الأزمة الحالية خارج المقاييس الانتخابية التي لا تكفي وحدها بطبيعة الحال لتقويم الطبيعة الديمقراطية للنظام السياسي. حدث الأمر نفسه في روسيا في السنة المنصرمة عندما فاز الرئيس الشاب "ديمتري ميدفيديف" في انتخابات شفافة ونزيهة، لا أحد يجهل أنها كانت مدبرة ومخططة بالكامل بأيادي الرئيس السابق بوتين الذي لا يزال ماسكاً بزمام القرار . ولعل هذا النموذج هو السائد في أغلب بلدان أوروبا الشرقية، وفي عدد من بلدان أميركا الجنوبية، وبعض الدول الأفريقية. في هذه الحالات كلها نجد حرية نسبية في التعبير مع تضخم الإعلام العمومي، وتعددية حزبية لا تعني ضرورة التعددية السياسية الحرة، وانتخابات منتظمة تحترم فيها القواعد الإجرائية للمنافسة دون أن تفضي إلى تناوب حقيقي على السلطة. لا تنطبق على هذه الديمقراطيات الموصوفة الانتقادات التقليدية التي وجهتها النظريات الثورية الراديكالية للنموذج الليبرالي الغربي (اعتباره تشريعاً لسيطرة طبقة مهيمنة)، باعتبار أن الأمر يتعلق في الواقع بتجارب مغايرة من حيث الخلفيات والآليات والصيغ العملية. في الحالات المذكورة ليست اللحظة الانتخابية سوى مناسبة احتفائية صدامية في آن واحد لإضفاء "الشرعية " على وضع سياسي قائم لا يستمد فاعليته من القاعدة الانتخابية، وإنما من التحكم في مراكز القرار الفعلية التي تتشابك مع السلطة السياسية، لكنها تتجاوزها جوهريا. في غالب هذه الحالات، نلمس نظاماً سياسياً بخصائص أربعة أساسية، تختلف العلاقة بين مكوناتها بحسب الساحات المتمايزة: - بنية مركزية قائمة على أوليجاركيا عسكرية مهيمنة هي الضابطة للاستقرار السياسي، والمتحكمة في تسيير الفضاء العمومي. - اقتصاد ريعي يتمحور حول المواد الأولية والاستثمارات الأجنبية، يشكل المنفذ الأساسي للثروة والعمل، ويخضع لتحكم الأوليجاركيا الحاكمة. - كثافة تعبوية منتظمة، متولدة إما عن نزعة قومية قوية أو أيديولوجيا محركة، حيث يلتبس العامل السياسي بالتلوينات الدينية والطائفية ونزعات الخصوصية الثقافية المتعصبة. -هياكل ونظم تعددية، تأخذ من المسلك الديمقراطي قواعده الإجرائية وفاعليته الإلزامية. في مثل هذا النظام السياسي تنتفي الشروط الثلاثة الرئيسية لنجاعة الآلية التنظيمية الانتخابية: حرية الوعي والإرادة التي تتمتع بها ذات فردية مسؤولة ومستقلة، التمفصل الواضح بين الدائرتين الخصوصية والعمومية ، والتمايز الواضح بين حقلي الدائرة العمومية اللذين هما المجتمع المدني والدولة. في غياب هذه الشروط، يتحول الإطار القانوني المعياري للتعددية السياسية إلى سياج محصن للاحتكار المستمر للسلطة، وتتحول التنظيمات الحزبية إلى أطر مشرعة للصراع الديني والطائفي والعرقي، وتصبح المنافسات الانتخابية لحظات حادة من صدام جذري حول المشروعية، وليس مجرد نزاع حول مركز السلطة. والإشكال المطروح هنا هو كيف نصنف الأنظمة التي تحترم شكليات وإجراءات التعددية السياسية، بالسماح بحرية الأحزاب وبالتنوع الإعلامي، كما تنظم فيها انتخابات تحترم فيها معايير المنافسة والتصويت، في الوقت الذي لا تخضع دوائر الحكم الفعلية للسباق؟ طرح هذا الإشكال بقوة في السنوات الأخيرة، في اتجاهات ثلاثة: - الاتجاه الذي برز في حقل الدراسات الاستراتيجية السياسية الأميركية في إطار مشروع تسويق وتصدير المسلك الديمقراطي كأحد المقومات الرئيسية للأمن القومي الأميركي بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. ويتمحور هذا الاتجاه إجمالا على القول بكونية القيم الديمقراطية، وتفسير الحالات الاستبدادية بالعوامل الجيوسياسية، أي غياب إرادة دولية لكسر الديكتاتورية وحماية الأنظمة القمعية. فالموجات الديمقراطية التي عرفتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وبعد الحرب الباردة لم تكن لتتم دون تدخل أميركي نشط، ومن هنا واجب استكمال هذا المشروع الطموح (في العالم الإسلامي خصوصاً). -الاتجاه الثقافوي الذي يربط نجاعة النظام الديمقراطي بالثقافة الليبرالية المؤطرة له، باعتبارها خصوصية ثقافية غربية، يربطها البعض بطبيعة المسيحية (التي تحمل في منظورها اللاهوتي فكرة الحرية وتتلاءم مع العلمنة)، ويربطها البعض الآخر بقيم التنوير والحداثة التي تمتزج بالأفق الفلسفي الغربي. - الاتجاه (السياسي - الاجتماعي) الذي يربط بقوة بين النظم الديمقراطية واستكمال التشكل التاريخي للدولة - الأمة التي من دونها لا تكون لشكليات التعددية والانتخاب أي فاعلية حقيقية، ولا تأثير على الحالة السياسية. قد يكون لكل من هذه النماذج الثلاثة جانب من الصواب، بيد أن خطورة هذا المنهج هو أنه يقود في الواقع إلى أفق مسدود. فما هو البديل المكرس لحقوق التنظيم السياسي الحر في غياب الشروط الاستراتيجية والثقافية والاجتماعية للتحول الديمقراطي؟ هل هو بالحفاظ على هياكل استبدادية ثبت عقمها وبرزت هشاشتها العملية، أو باعتماد مسلك "الديمقراطيات الجديدة" التي هي في الواقع أنظمة تعددية انتخابية من دون فاعلية تنافسية ولا أفق تناوب وتغيير؟ وقد يكون من المفيد هنا الاستفادة من الإسهامات النظرية الجديدة للعديد من الفلاسفة والمفكرين الغربيين الذين طرحوا تصورات مهمة حول تجديد آليات المسلك الديمقراطي. ومن هؤلاء المفكر الفرنسي "بيار روزنفالون"، الذي سعى في أعماله الأخيرة إلى إعادة بناء نظرية الشرعية التي تمحورت في السابق حول نظرية ماكس فيبر الشهيرة. فبالنسبة له آن الأوان لاستكشاف آليات أخرى لشرعية غير الانتخاب وحده الذي لا يكفي في كثير من الأحيان لتكريس الشرعية السياسية. فالحياة الديمقراطية هي الآن في طور التوسع لتشمل سجلات جديدة كممارسات الرقابة والعزل والجزاء التي تجسد عمليا حقل المواطنة الفاعلة.كما أن مفهوم الإرادة المشتركة لم يعد ينحصر في احتساب صوت الأغلبية الناخبة، بل في آليات ومؤسسات ونظم تكفل عدم التحيز والإنصاف وتحول دون إضفاء "الشرعية" على حالات التفاوت والتحكم التي تلتزم الضوابط القانونية. ومن هذه الآليات التي يقف عندها روزنفالون مؤسسات تسيير النفع العام القائمة على شرعية عدم التحيز كهيئات تنظيم الإعلام وتسيير الأسواق المالية وقطاعات الخدمات الحيوية، التي يعين أعضاؤها من الشخصيات المستقلة بالتوافق، المؤسسات الدستورية القانونية التي تشكل نمطاً من الرقيب على الفاعلين السياسيين. فالديمقراطيات الوليدة تحتاج أكثر من الديمقراطيات العتيدة المستقرة إلى مثل هذه الضوابط، نتيجة لضعف نسيجها المجتمعي وهشاشة المجال العمومي فيها. وبعبارة أخرى، يتعين في غياب المؤسسات الديمقراطية الفاعلة تخويل القوانين والنظم الإجرائية مسؤولية حماية الفرد والمجتمع من التعسف والاستبداد الذي لا يتناقض بالضرورة مع الميكانيكا الانتخابية.