العقلية العسكرية الاستعمارية (الاستيطانية) الإسرائيلية قاصرة عن استيعاب حقيقة بسيطة مفادها أن القوة العسكرية لا تستطيع أن تحقق الردع مع شعب من اللاجئين أعزل ومحاصر وليس لديه ما يخسره لكنه يملك القضية والكرامة والإرادة للمقاومة. وبين الحين والآخر، يعود الحديث إسرائيلياً عن حقيقة نتائج الحرب الأخيرة على قطاع غزة متواكباً مع تصدع الرواية الإسرائيلية عن تحقيق أهداف الحرب. تلك النتائج التي لم يصمد منها حتى الآن في رواية المدافعين عن الحرب سوى موضوع تحقيق "الردع الإسرائيلي" في مواجهة "حماس"، مسوقين لجمهورهم "قدرة" الجيش الإسرائيلي والتي هي في الواقع قدرة على التدمير وقتل المدنيين! وأصلا، منذ حرب يوليو 2006 ضد لبنان، يمارس الإعلام الإسرائيلي حالة من التجييش والترويج للحرب، تشارك فيها مختلف نخب قطاعات صناعة الرأي العام، تتلوها حالة من التعصب والإجماع القومي خلال الحرب بدون أي معارضة تذكر، ثم تبدأ حالة من "الصحوة" والنقد الذي ينحصر في خدمة أجندات النخب والأحزاب المتصارعة ولا يصل إلى عمق المواقف والسلوك الإسرائيلي فيما يتعلق بالقضايا الجوهرية، وينصب في معظمه على "الأداء الفني" أو التوقيت. مثلا، في حالة الحرب الأخيرة على قطاع غزة وصوابية شن الحرب من عدمها، لم تطرح في النطاق الإسرائيلي تساؤلات جدية حول حدود القوة وجدوى استعمالها. وحتى نهاية الحرب، انحصر الخلاف داخل المجتمع الإسرائيلي حول التوقيت الأمثل لوقف إطلاق النار: فهناك من اعتقد أنه كان من الممكن وقف إطلاق النار بعد أول يوم للقصف بحجة أن مجزرة قتل مئتي شرطي فلسطيني كانت كافية لإظهار أن إسرائيل حققت الردع المنشود لوقف الصواريخ الفلسطينية، في حين ذهب آخرون إلى النقيض منادين بضرورة استمرار الحرب "حتى القضاء على آخر حمساوي في القطاع"! من جهته، يضيف "ألوف بن" بعداً آخر لحالة الارتباك، وذلك في مقاله "دولة غير طبيعية" المنشور في "هآرتس"، حيث يقول: "من الذي رفع شكوى إلى مجلس الأمن ضد حكومة حماس في غزة، بسبب إطلاق صواريخ القسام؟ إنها حكومة إسرائيل. وعندما التأم مجلس الأمن للبحث في مواجهات غزة، من الذي عارض إرسال وزيرة خارجيته إلى الأمم المتحدة، حتى لا تمنح شرعية لتدخل مجلس الأمن في العملية (العسكرية) ضد حماس؟ ومن الذي ترك الحلبة الدولية الأهم لسفيرها في الأمم المتحدة في حين أغرق الفلسطينيون والعرب البناية ببعثات عالية المستوى؟ إنها حكومة إسرائيل. وفي هذا السياق، يتأثر السلوك الإشكالي الإسرائيلي في الأمم المتحدة بحالة الخصومة في قيادة الدولة، لكنه يعكس مشكلة أعمق. حيث لم تقرر إسرائيل بعد ما إذا كانت ترغب في أن تصبح عضواً طبيعياً في المجتمع الدولي، وأن تدفع ثمن هذه (الطبيعية)، أو أن تظل وحيدة في الخارج". ويختم الكاتب الإسرائيلي مقاله: "بدأت هذه الحيرة منذ قيام كيان إسرائيل واستمرت حتى الآن. وكما كان قد قال ديفيد بن جوريون: هناك ميل طبيعي لدى السياسيين الإسرائيليين إلى أن يروا في الأمم المتحدة ومؤسساتها منظمة معادية، تسيطر فيها غالبية معارضة لإسرائيل، حيث لا ينقذنا من أيادي هؤلاء سوى الفيتو الأميركي". وفيما بعد متمم لحالة الارتباك، يعلق "اسحق لئور" في مقاله الساخر "الأكثر أخلاقية في العالم" على تهنئة وزير "الدفاع" (إيهود باراك) للنائب العسكري العام بشأن التحقيق في جرائم الحرب على القطاع وثبوت "براءة جنود الاحتلال"! وبصيغة استهزائية يقول: "كل استطلاع إسرائيلي عن التعذيب أو الفظائع كان سيظهر، بلا ريب، نتائج بسيطة: أولا، ليس صحيحاً، ثانياً: هم بدؤوا! الجيش الإسرائيلي هو الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"! ويتابع ساخراً: "الجميع في إسرائيل يسير على وتيرة ذات الطبل: ما لم يتناسب مع "الأنا الوطنية" يتم رفضه. وماذا عن دير ياسين؟ رمز جيد، ليس نحن من اقترفه، بل المنشقون. ومذابح مثل التي جرت في سعسع وطبريا واللد..؟ غير ذات صلة الموضوع. وقبية أيضاً؟ انسوا هذا كله! ثم صبرا وشاتيلا؟ لنذكّركم أيضاً أن المسيحيين قتلوا المسلمين". ويضيف الكاتب: "حان الوقت لقول شيء ما عما تفعله الدولة وجيشها عندنا، لرعايانا، بما في ذلك للجنود الذين يصابون بجرثومة الوحشية، وبالرعاية الصلبة للجماعة التي لا مثيل لها في العالم الديمقراطي. كل الفظائع التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي تجري دوما برعاية قانون التجنيد الإلزامي، الذي هو ليس قانوناً فقط، مثل دفع ضريبة الدخل، أو السياقة في الجانب الأيمن من الطريق، بل واجب مقدس. عدم الذهاب إلى الجيش معناه أن يكون المرء "مجنوناً"، وفقط "المجانين" لا يذهبون إلى الجيش ولا يغمسون أياديهم بالدم الطقسي. هذا هو النمط الأخلاقي الأعلى للمجتمع الإسرائيلي"! غير أن شمس الحقيقة لا يمكن تغطيتها بغربال. فرغم مزاعم إسرائيل عن "الأخلاقيات الأعلى" لجنودها، سجلت الصحافة العبرية حقائق لا يمكن إنكارها. فمثلا، "هآرتس" ذكرت بتاريخ 22 مارس 2009 أن قمصان بعض الجنود الإسرائيليين كان مكتوباً عليها "أطلق النار لأقتل"، وأن بعضهم اعترف في شهادات مسجلة بأن قيادتهم أمرتهم بأن يقتلوا دون خوف من العقاب، وتحدثوا عن عمليات محددة ضد مدنيين في بناية، واستخدام ولد فلسطيني كدرع بشرية، وعن منشورات دينية تلقوها تحرض على القتل. كما أن الأوامر الواردة في وثيقة مكتوبة نصت على إطلاق النار على طواقم الإسعاف في حال اقتربت من بيوت فلسطينية احتلتها القوات الإسرائيلية"! أما "معاريف" فنقلت في 20 مارس 2009، وعلى لسان عدد من الجنود وقائع منها: "في كثير من الحالات الموصوفة أطلقت النار على نساء وأطفال كان بالوسع تشخيصهم بوضوح كونهم لا يشكلون خطراً على القوات"! ومنها أنه "في أماكن كثيرة طبقت نظرية تقول بوجوب طرد العائلة إلى الشارع، رغم أنه كان من الواضح أن مجرد وجودها في مكان مكشوف يعرّضها لخطر الموت"! ومنها أيضاً أنه "تم استخدام الكثير جداً من النيران، وقتل الكثير جداً من الفلسطينيين في الطريق، من أجل أن لا نتضرر"! وكذلك أفاد هؤلاء الجنود أن "جهات عليا قالت لنا إنه مسموح بإطلاق النار والقتل لأن كل من بقي في القطاع هم تحديداً المخربون، علماً بأنه لم يكن لديهم أي مكان يهربون إليه! لذا كان علينا أن نفهم، بأنه مسموح لنا أن نفعل ما نشاء في غزة"! ولتحيا إباحية القتل العشوائي والتدمير الشامل غير الانتقائي عند "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"!