استبشر العالم خيراً بشعار التغيير الذي رفعه الرئيس أوباما، وبخاصة في مجال السياسة الخارجية الأميركية. وذلك لأن السنوات الثماني العجاف التي ترأس فيها بوش الولايات المتحدة الأميركية، كانت مليئة بالمخاطر على السلام العالمي، بعد أن رفع شعار "الحرب ضد الإرهاب"، التي لا يحدها مكان أو زمان. غير أن الدوائر السياسية في العالم عموماً وفي الوطن العربي خصوصاً، تتساءل عن قدرة أوباما على القيام بتغيير جوهري في مجال حل الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي، حتى لو كان راغباً في ذلك بشدة، تحقيقاً للمصالح القومية الأميركية في المقام الأول. وبهذا الصدد عرفتُ من مصدر أكاديمي عربي موثوق، أن أوباما لديه خطة متكاملة للضغط على إسرائيل حتى تقبل بسيناريو الدولة الفلسطينية المستقلة التي تعيش جنباً إلى جنب بجوار الدولة الإسرائيلية، وأن هذه الخطة تتضمن إجراءات محددة كفيلة بجعل إسرائيل ترضخ أخيراً، وتقبل بالسيناريو المقترح، والذي أصبح محل إجماع عالمي، بعدما كان مجرد مبادرة عربية. ومع كل ذلك، يبقى السؤال معلقاً وهو: ما هي قدرة أوباما على التغيير الموعود؟ إن الإجابة على السؤال تقتضي معرفة من يحكم أميركا؟ أو بعبارة أخرى، ما هي مراكز القوى الأساسية في النظام السياسي الأميركي التي تمسك بخيوط الشأن السياسي، وهل هذه المراكز متعددة أم أنها مركزة في عدد قليل يهيمن على مجمل توجهات السياسة الأميركية؟ هذه تساؤلات أساسية شغلت علماء السياسة الأميركيين منذ بداية الخمسينيات، وخصوصاً بعدما أصدر عالم الاجتماع الأميركي "س. ر. ميلز" كتابه الشهير "نخبة القوة" عام 1956، الذي رصد فيه على وجه التحديد ثلاث قوى رئيسية تتحكم في السياسة الأميركية: مجموعة قليلة من السياسيين المحترفين، ورؤساء ومديرو الشركات الكبرى، وكبار ضباط القوات المسلحة. ويمكن القول إن البحث عن مراكز القوى الأميركية تتنازعه ثلاث نظريات رئيسية. النظرية الأولى هي التعددية، وترى أنه ليست هناك مراكز قوى محددة مهيمنة، لأن القوة موزعة بين مراكز متعددة تتبادل التأثير والتأثر. والنظرية الثانية هي "نخبة القوة" وهي وجهة نظر "ميلز" التي أشرنا إليها، وترى أن القوة مركزة في أيدي نخبة محددة. والنظرية الثالثة والأخيرة هي نظرية "الطبقة الحاكمة المسيطرة". وإذا ركزنا على النموذج التعددي Pluralist نجد أن أنصاره يقررون أن السياسة أساساً مجال أصيل للتنافس. وأن هناك عدداً كبيراً من الجماعات المتصارعة التي تمارس بسهولة نسبية حشد قواها للتأثير في عملية صنع القرار للتعبير عن مصالحها. ومن ناحية أخرى فإن النماذج المتعددة للموارد مثل الثروة والكاريزما والمكانة، يمكن ترجمتها في المجال السياسي إلى قوة، ومن هنا يمكن توزيع القوة بين أطراف متعددة بشكل واسع المدى. ويؤمن أنصار النموذج التعددي بأن النظام السياسي يتمحور حول مؤسستين أساسيتين، هما الأحزاب السياسية من جانب، وجماعات المصالح من جانب آخر. والأحزاب السياسية تتنافس في الانتخابات وتسعى إلى كسب تأييد مختلف القواعد الاجتماعية لكي تفوز وتحكم بالتالي. أما جماعات المصالح فهي تجمعات سياسية مستقلة تدافع عن مصالح اقتصادية أو اجتماعية محددة، ووسائلها في ذلك متعددة، فهي تمارس الضغوط على مصادر إنتاج القرار السياسي Lobbying، وقد ترفع قضايا أمام المحاكم لتقرر حقاً ما لأنصارها، وقد تتبرع لحزب سياسي ما لمساعدته في كسب الانتخابات، وقد تشن حملات دعائية. وجماعات المصالح هذه تجد ترجمة لها في الواقع في صورة النقابات المختلفة، والجمعيات المهنية التي تحاول التأثير في اتجاهات القرارات الحكومية. ومن أمثلة جماعات المصالح "المنظمة القومية للمرأة"، و"التجمع القومي لتقدم الشعوب الملونة"، وغيرهما. وفي نظر أنصار النموذج التعددي فإن منظمات جماعات المصالح عادة ما تركز على موضوع محدد تناضل في سبيل تحقيقه. غير أن المهم في الموضوع هو أن جماعات المصالح لا تتحرك كتلة واحدة، بمعنى أن رجال الأعمال قد تتناقض مصالحهم وكذلك العمال، وبالتالي فإن هناك تنافساً بين عدد من جماعات المصالح مما يمنع الاستقطاب الاجتماعي. والبنية الكلية للحكومة في نظر أنصار النموذج التعددي تعددية، وذلك على أساس التفرقة المعروفة في أميركا بين النظام الفيدرالي ونظام الولايات والحكومات المحلية، التي قد تتنافس في مجال اكتساب القوة. ونتيجة ذلك عملية الرقابة والتوازن Checks and balances التي تمنع أن تحتكر جماعة ما تحقيق أهدافها على حساب الجماعات الأخرى، ومنع الانزلاق إلى مواقف متطرفة. وفي النهاية يمكن القول إن المصالح الجمعية تعني أن هناك اختلافات متعارضة تسود المجتمعات الحديثة، وهذه الاختلافات -يراها التعدديون- إيجابية، لأنها تمنع الاستقطاب وتقضي على المواقف المتطرفة. ومن أبرز البحوث العلمية التي أكدت الطابع التعددي للمجتمع الأميركي دراسة عالم السياسة المعروف "روبرت دال" Dahl التي نشرها عام 1961 عن القوة السياسية في مدينة "نيوهافن" بولاية "كونيكتيكت". فقد وجد أن عدداً قليلا من الأسر الغنية سيطر على سياسات المدينة في القرن التاسع عشر. غير أن ذلك الوضع تغير في القرن العشرين، نتيجة موجات التحضر والنمو السكاني والتصنيع، مما أدى إلى توزيع القوة الذي أعطى جماعات المهاجرين ونقابات العمال والطبقات الوسطى دوراً فاعلا في السياسة، بعد أن كانت محتكرة في أيدي القلة من العائلات الغنية. ومن هنا دلالة العبارة الختامية لـ"روبرت دال" أنه في الواقع ليس هناك أي شخص أو جماعة محرومة كلياً من القوة، ويعني بذلك أنه مع توزيع القوة بين أطراف شتى، أصبح هناك وزن لكل فرد وجماعة في المجال السياسي. غير أن نقاد النموذج التعددي يرون أن أنصاره إنما يرسمون صورة مزيفة للسياسة في الولايات المتحدة، وذلك لأن الجماعات غير المحظوظة تعاني مشقة كبيرة في التعبئة والحشد دفاعاً عن مصالحها، وهي بالتالي مستبعدة من عملية صنع القرار. والخلاصة أن النموذج التعددي يقدم في الواقع صورة مثالية للنظام السياسي الأميركي. وذلك لأنه يدعي أن هناك تنافساً مشروعاً لاكتساب القوة بين جماعات سياسية واجتماعية شتى في الولايات المتحدة، وأن المسألة أشبه ما تكون بمباراة مفتوحة، من حق كل طرف سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أن يشارك فيها على قدم المساواة. وأهم من كل ذلك أنه ليس هناك تركيز للقوة في يد طرف واحد أو أطراف قليلة، وليس هناك احتكار اقتصادي، ولا يوجد استقطاب اجتماعي. وبعبارة أخرى فإن كل الجماعات السياسية والاقتصادية على قدم المساواة، وتتصارع في إطار ديمقراطي لتحقيق أهدافها، من خلال محاولة التأثير على عملية صنع القرار. والسؤال الآن ما هي موضوعية هذه الصورة المثالية للنظام السياسي الأميركي؟ وهل صحيح أن كل مواطن أميركي حر في ممارسة القوة التي يملكها والتي هي موزعة بقدر معقول من العدالة بين الجماعات السياسية المختلفة؟ إن هناك تركزاً للقوة في مراكز محددة كما ذهب إلى ذلك من قبل العالم الاجتماعي "س. ر. ميلز" في نظريته عن "نخبة القوة"، والتي قدمت نظرية مغايرة تماماً عن النظام السياسي الأميركي. بل إن الأمر أخطر من ذلك كله، لأن هناك -كما تذهب نظريات ماركسية أخرى- طبقة حاكمة أميركية تهيمن على كل مصائر البشر سياسياً واقتصادياً واجتماعياً؟