لم يعالج خامنئي الأسباب الجوهرية لأزمة الانتخابات الرئاسية العاشرة، في خطبة الجمعة الماضية في جامعة طهران، وإنما حرص على إنهاء مظاهرها في الشارع قبل كل شيء. ولجأ، في سبيل ذلك، إلى مزيج من الصرامة والليونة، من التهديد والاحتواء. وأصر على أن الخلاف بشأن نتائج الانتخابات هو بين أبناء الجمهورية ونظامها الإسلامي. لكن هذا لا يمكن أن يكون صحيحاً إلا إذا حصرنا الأزمة في الخلاف السياسي، وعزلناه عن البيئة المجتمعية التي نفذ إلى أعماقها فأنتج انقساماً عميقاً يشطر المجتمع إلى كتلتين كبيرتين. فإذا اعتمدنا النتائج المعلنة لانتخابات 2009، فهذا يعني أن حوالي ثلث الناخبين لا يقبلون الوضع الراهن ويتطلعون إلى التغيير. لكن المسألة ليست فقط في العدد الذي يربو على 13 مليون ناخب من بين نحو 39 مليوناً أدلوا بأصواتهم وفق النتائج الرسمية، وإنما أيضاً في الدلالات الاجتماعية لهذه الكتلة الكبيرة وما يفصلها عن نظيرتها الأكبر منها. فنحن إزاء كتلتين تعبران عن انقسام مجتمعي خطير لاحظ كثير من المراقبين مظهره الأكثر وضوحاً في الفروق النوعية بين جمهوري المرشحين الرئيسيين؛ نجاد وموسوي. وكان سهلا ملاحظة أن جمهور نجاد أكثر بساطة وتواضعاً بالمعنى الاجتماعي وأكبر حجماً، وأن جمهور موسوي أكثر تميزاً وثراءً وأقل حجماً ولكنه أوفر حضوراً وأشد قدرة على جذب الانتباه. ورغم أن هاتين الكتلتين المجتمعيتين لا تعتبران مصمتتين، إذ تتسم كل منهما بكثير من السيولة، فهما متناقضتان في نظرتهما إلى الحياة ومعناها ربما بأكثر مما هما متعارضتان في تفضيلاتهما السياسية المتفاوتة في داخل كل منهما وبصفة خاصة في الكتلة التي أيدت موسوي. فهذه كتلة ذات طابع نخبوي، وإن كان من الصعب اعتبارها نخبوية بشكل كامل. فهي تشمل قسماً كبيراً من شباب الفئات الاجتماعية الوسطى والوسطى العليا وخصوصاً في المدن، وبصفة خاصة طلاب الجامعات ونسبة يُعتد بها من خريجيها في السنوات الأخيرة. وتندرج نساء الفئات الوسطى والعليا المتعلمات والمتطلعات إلى شيء من الحرية ضمن هذه الكتلة التي تضم أيضاً كثرة من ذوي الدخول المرتفعة، وأغلبية كبيرة من المثقفين. لذلك لم يكن غريباً أن يساهم أحد أكثر مخرجي السينما شعبية (مجيد مجيدي) في حملة موسوي الانتخابية بفيلم وثائقي يعرض مقاطع من حياته العامة ومشاهد من أنحاء البلاد منسوجة ببراعة مع خلفية موسيقية دينية ووطنية خافتة. وفضلا عن ذلك، تشمل كتلة موسوي نخبة كبيرة من مؤسسي الجمهورية الإسلامية وكبار رجالها في مراحل مختلفة، بدءاً من هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي وعلي لاريجاني وناطق نوري، وليس انتهاء بمحتشمي ومهاجراني وكرباستشي وغيرهم. لذلك تجمع هذه الكتلة قوى حديثة اجتماعياً وأخرى تقليدية وثالثة في منزلة بين المنزلتين. ورغم أن اللون الأخضر الذي استظلت به أظهرها كما لو أنها موحدة، فإن أكثر ما جمعها هو السعي إلى منع إعادة انتخاب نجاد. فليس كل من انضوى تحت لواء "الموجة الخضراء" أراد موسوي تحديداً، لأن طموح بعضهم يتجاوز أقصى ما يمكن أن يسعى إليه إذا صار رئيساً، أو حتى يفكر فيه حسب خلفيته وتوجهاته المعروفة عنه. لذلك بدا هذا المرشح بالنسبة إليهم خطوة أولى في طريق طويل. وكتلة هذه سماتها يصعب اعتبارها قائمة على أساس محض طبقي، رغم أن الكثير من المسيرات التي نظمتها حملة موسوي الانتخابية قبل يوم الاقتراع أعطت انطباعاً بذلك، مثلما أوحت به أماكن تجمع هذه المسيرات في طهران. فكان شارع ولي عصر وميدان فردوسي والأحياء الراقية مركزها الرئيسي، بينما كان شارع الثورة والأحياء المتواضعة هما مركز تجمع المسيرات المؤيدة لنجاد في طهران. فالانقسام ليس محض طبقي، لكنه لا يخلو من طابع طبقي يُعتد به. ويظهر ذلك عندما نتأمل التركيب المجتمعي للكتلة المؤيدة لنجاد. فالفئات الدنيا، والدنيا الوسطى، هما عماد هذه الكتلة وخصوصاً فقراء الفلاحين الذين يشكلون قاعدة اجتماعية رئيسية له. فقد نجح نجاد، خلال السنوات الأربع السابقة، في بناء قاعدة عريضة من الفئات التي استفادت من سياسته الاجتماعية التي قامت على التوسع في الدعم النقدي والمساعدات المباشرة في إطار "اقتصاد الصدقات الإسلامي". وقد حققت هذه السياسة شيئاً من الترميم الاجتماعي في مجتمع ازداد فيه الفقر، لكنها أدت إلى تصدع النظام الاقتصادي بسبب حرمانه من موارد كبيرة كان يمكن أن تحقق ارتفاعاً متزايداً في معدلات النمو لو أنها استُثمرت في مشاريع جديدة تصنع المستقبل بدلا من توزيعها لسد حاجات يومية راهنة. أما القوة الضاربة والفاعلة في كتلة نجاد المجتمعية فهي قوات التعبئة المدنية (الباسيج) الذين يُقدر حجمها بأعداد ضخمة, وقد تحققت لهم مكاسب كثيرة خلال سنوات حكم نجاد، مثل الزيادة في الرواتب، وفرص الالتحاق بالجامعات، والتسهيلات المصرفية غير المسبوقة، فضلا عن تعزيز مكانتهم على المستوى السياسي العام. ولأن الكثير من أعضاء "الباسيج" شباب حديثو السن، مثلهم مثل قطاع بارز في الكتلة الأخرى من أبناء الفئات الوسطى والوسطى-العليا، يصعب القول إن الانتماء الجيلي هو محور الانقسام بين الكتلتين، مثلما لا يمكن النظر إلى هذا الانقسام من زاوية محض طبقية. ففي كل من الكتلتين أجيال مختلفة وفئات اجتماعية متنوعة. لكن يغلب على كتلة موسوي ذات الطابع النخبوي أنها أكثر تميزاً من الناحية الطبقية، وأن شبابها أكثر تعليماً وأوفر حظاً، دون أن تخلو كتلة نجاد ذات الطابع الشعبوي بدورها من أبناء فئات اجتماعية متميزة وشبان متعلمين يقنعهم أداؤه ويؤمنون بركائز الجمهورية وأُسسها الأيديولوجية التي تقوم على تمجيد الدولة القوية وحصر دور المجتمع في تجديد العهد مع "إمام الزمان" والولي الفقيه الذي ينوب عنه في إطار نظام الجمهورية الإسلامية، وهو ما يسميه منّظروها "حاكمية الشعب الدينية". فما المجتمع، في هذه الرؤية، إلا مصدر دعم للدولة المكلفة بواجبات دينية. لذلك فهو مجتمع مؤمن وليس مجتمعاً مدنياً. وهنا تتعارض رؤية نجاد وكتلته على هذا النحو مع الرؤية العامة في الكتلة التي أيدت موسوي، وخصوصاً في طابع العلاقة بين الدولة والمجتمع. فـ"الكتلة الخضراء"، تريد دوراً أكبر للمجتمع، وتتطلع إلى مجتمع مدني مشارك في إدارة الشأن العام وتحديد اتجاه الجمهورية. وهي ترى أن المجتمع المدني لا يتعارض مع أسس هذه الجمهورية لأنه يظل مؤمناً، ولا يناقض مبدأ الخلاص المهدوي في النظرية الخومينية، لأنه يمكن أن ينسجم مع ما يعتبرونه مهدوية حقيقية وليست تلك الخيالية التي ينسجها التيار المحافظ من انغلاقه وتطرفه وعدم قدرته على قبول الآخر، إن في الداخل أم في الخارج. وهكذا يبدو الانقسام في إيران اليوم أعمق من أن يمكن الاطمئنان إلى مستقبل الجمهورية الإسلامية بمجرد إنهاء مظاهره الخارجية في الشارع. فهو انقسام مجتمعي عميق وليس فقط سياسياً... انقسام بين كتلتين مجتمعيتين عريضتين رغم تفاوتهما كمياً، وبين رؤيتين للحياة بوجه عام. وفي ظل انقسام بهذا العمق لا يمكن أن يبقى الشعب موحداً بالقوة والإرغام والتهديد. فمفهوم وحدة الشعب، الذي ترتكز عليه الجمهورية الإسلامية ويركز عليه مرشدها الأعلى، لم يعد له محل إلا إذا أُعيد صوغه ليقوم على أساس التفاهم والتوافق الطوعيين عبر حوار جاد حول المستقبل. ولا يمكن أن يكون مثل هذا الحوار مثمراً إلا إذا انطلق من الخلاف على نتائج الانتخابات ودخل في عمق القضايا الكبرى ذات الصلة بطابع الدولة أو الجمهورية الإسلامية ودور المجتمع، وأدى إلى تفاهم على تطوير النظام السياسي. فالأزمة في إيران اليوم أوسع من انتخابات رئاسية مختلف على نتائجها الرسمية، وأبعد من احتجاجات مختلف على شرعيتها. ولكن حتى لو أن الانتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة قد أدت وظيفة التنافس السياسي، فإن العملية الانتخابية لم تعد كافية لتحديد اتجاه المستقبل في ظل انقسام عميق يقتضي حواراً جاداً يهدف إلى إعادة دمج كتلة مجتمعية عريضة في نظام يشعر كثير من أنصار هذه الكتلة بأنه لم يعد يتسع لهم. فالانقسام المجتمعي -الثقافي الحادث في إيران اليوم هو من نوع وبحجم يمكن أن يهز الاستقرار في أي بلد، فما بالنا إذا كان هذا البلد محكوماً بأيديولوجية تقوم في مبتدئها ومنتهاها على مبدأ الشعب الموحد المؤمن.