في وقت سابق من هذا الشهر، خطت صحيفة "ذا بوستون جلوب" خطوة إضافية أخرى قربتها أكثر من شفير الهاوية حين رفض اتحاد صحفييها خفضاً للأجور بنسبة 10 في المئة، مما دفع الإدارة إلى تنفيذ تهديداتها وخفض الرواتب أكثر. والاعتقاد السائد يقول إن الصحف تضررت نتيجة فرار الإعلانات إلى الإنترنت، والحال أنها تضررت أيضاً من تربح الشركات والتعجرف والنخبوية والرتابة التي نفّرت القراء، أفراداً وجماعات. لذلك، يتعين على الصحف أن تنظر إلى الوراء نظرة تأمل وتمعن. ويجدر بها أن تستعيد جذورها الشعبوية، الجذور التي باتت تسيطر عليها الإنترنت بشكل متزايد. ولنتأمل في ما يلي الأشياء التي طالما أفلحت الصحف في القيام بها: فحتى حين واجهت منافسةَ الراديو والتلفزيون اللذين يتميزان بميزة الفورية والبث المباشر، كانت الصحف الجيدة تقدم لقرائها المفاجآت والاكتشافات والتميز والكتابات الجيدة ووضوح الرؤية والهدف والتجربة المشتركة. وكانت أفضل الصحف تحدد الأجندة من خلال أخبارها وآرائها، فلا تقدم صوت حَكم محتشم، كما رأينا في "الجدل" الأخير الذي دار بين الرئيس الأميركي أوباما ونائب الرئيس السابق تشيني حول التعذيب، وإنما صوت قوي يعكس الزعامة المعنوية. وكانت شجاعة بعض رؤساء تحرير الصحف الجنوبية (جنوب الولايات المتحدة)، على سبيل المثال، هي التي ساعدت على إنهاء التمييز لأنها اتخذت موقفاً. ولم تمنح، باسم "التوازن"، دعاة الوحدة ودعاة الانشقاق صوتاً متساوياً. والواقع أن الصحف تستطيع استعادة هذه التركة واستعادة زعامتها عبر الأخذ بزمام المبادرة أكثر، وليس الاكتفاء فقط بالتعبير عن ردود الفعل على الأحداث. وهنا تتبادر إلى الذهن ثلاث خطوات: 1- ضرورة الكف عن إعطاء قارئ اليوم عناوين أخبار الأمس. فقبل قيام موظفيها بالتصويت، نشرت صحيفة "ذا بوستون جلوب"، على سبيل المثال، خبرا بالبنط العريض "يخبر" القراء بأن "الرئيس أوباما أعلن أمس أن حصة الأغلبية التي تمتلكها الحكومة في رأس مال شركة جنرال موتورز سيساعد على خلق شركة أكثر تنافسية في مجال صناعة السيارات، وذلك ساعات بعد قيامها بإشهار إفلاسها". هذه بقايا طعام، وليست خبراً! 2- تطوير مزيد من المشاريع والأنشطة التي تقيس وقع وتأثير السياسات الحكومية على الناس والمجتمع. لنترك تغطية خطابات السياسيين وتصريحاتهم لوكالات الأنباء. أما الصحف، فمهمتها هي أن تسخّر صحفييها وموظفيها من أجل قياس مَن تأثر بتلك الخطابات وكيف. لا أتحدثُ هنا عن مشاريع كبيرة تستغرق عاماً ومن حجم مشاريع "بوليتزر". بل ما أقصده هو أن على الصحف أن تستثمر في نشاط قوي ويومي من الحجم الذي يمكن إدارته ويفضي إلى التغيير. 3- قضاء وقت أقل في تغطية البنوك والمضاربين وخبراء الخداع والمراوغة الإعلامية الذين يهيمنون على الأخبار، وقضاء وقت أكبر في المقاهي ومحال البقالة وقاعات البولينغ والحدائق الخلفية. هذا لا يعني أن آراء الخبراء لم تعد مهمة، ولكن هذه الخبرة ينبغي أن تركز على القراء، وليس المصادر؛ وينبغي استعمالها لرسم مسار الصحيفة، أي أجندتها. بعبارة أخرى، يتعين على الصحفيين أن يهتموا بكيف يعيش التسعون في المئة المتبقون منا -نحن المواطنين- وليس فقط حين نرتكب جرائم أو نقع ضحايا لها. لقد كتب توماس جيفرسون مرة يقول: "لو كان الأمر بيدي وطُلب مني أن أختار بين حكومة بدون صحف وصحف بدون حكومة، لما ترددت لحظة في تفضيل الخيار الثاني". غير أنه بالنظر إلى المشهد الحالي للصحف الذي تتنازعه وتهيمن عليه "المجموعات المركزة" وتقارير المكاسب الربحية، فإنني أتساءل إن كان سيقول الشيء نفسه اليوم. في زمن جيفرسون، كانت الصحافة في أحيان كثيرة شديدة اللهجة، ولكنها كانت في الوقت نفسه أساسية ومهمة. ولم يكن أحد يتحدث عن الصحف باعتبارها السلطة الرابعة، أي الدور الذي يبدو أن الكثيرين من صحفيي النخبة اليوم يفهمونه بمعناه الحرفي. ذلك أنه منذ أن تطورت الصحافة الاحترافية خلال القرن الأخير، بات عدد متزايد من الصحفيين يحصلون على درجات علمية، غير أن عدداً قليلا منهم يعيشون في المجتمعات التي يغطونها وبين الناس الذين يكتبون عنهم. إلا أنه لم يفت الأوان بعد، ربما، كي يبتعد هؤلاء الصحافيون عن دهاليز السلطة ويقتربوا أكثر من نبض الشارع، بعيداً أكثر عن الأشخاص الذين يقومون بالتصريحات السياسية وقريباً أكثر من الأشخاص الذين يتأثرون بسياساتهم. إذا كانت الإنترنت تستطيع خلق مجتمعات افتراضية بالنسبة لأي جمهور معين، فإن الصحف وحدها تستطيع جمع مجموعة أوسع -مجموعة مختلفة ومتفاوتة القيم والأعمار والخلفيات- ضمن مكان واحد للمعلومات والأفكار. وبالنظر إلى الحالة التي يوجد عليها الاقتصاد اليوم، فيمكن القول إن مزيدا من الصحف ستتوقف على الأرجح. غير أنها إذا ساعدتنا على اكتشاف ما هو جديد في أحيائنا وفي بلدنا، فإن معظم الصحف ستصمد وتستمر. لكن، عليها أولا أن تتذكر وتستحضر في ذهنها دائماً لمن تكتب وأين توجد جذورها: معنا، نحن الشعب. جيري لانسون أستاذ الصحافة بجامعة إيميرسون كوليدج الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"