اشترط رئيس الحكومة الإسرائيلية "بنيامين نتانياهو" الاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية لقبول مبدأ دولة فلسطينية (محدودة السيادة ومنزوعة السلاح). وقد تزامن خطاب نتانياهو مع مشروع قانون تبناه الكنيست يعاقب بالسجن من يرفض الطابع اليهودي للدولة، بعد أن كان صدر قانون آخر عام 1992 يمنع أي حزب لا يعترف بيهودية إسرائيل من التقدم للانتخابات. ليس الموضوع بالجديد في الخطاب السياسي الإسرائيلي، على الرغم من الضجة الهائلة التي خلفها كلام نتانياهو. بيد أن الجديد في الأمر هو بروز تيار فكري واسع في إسرائيل بدا يطرح أسئلة نقدية حرجة حول الفكرة الصهيونية نفسها التي تأسست عليها الدولة، وأثرها على السمة الديمقراطية المعلنة للكيان السياسي القائم. فليس موضوع المكون العربي (خمس السكان) هو الرهان الأوحد في معادلة الهوية الإسرائيلية، وإنما تتعين الإشارة أيضاً إلى بروز اتجاه متنام داخل إسرائيل وفي النخب اليهودية الغربية داع إلى تجاوز الأيديولوجيا الصهيونية، بصفتها تنتمي إلى النزعات القومية المغلقة والاقصائية. ولعل من أهم ممثلي هذا الاتجاه المؤرخ الإسرائيلي "شولمو ساند" الذي أصدر السنة الماضية كتاباً متميزاً بعنوان "كيف تمت صناعة الشعب اليهودي". والمؤلف ـ بالنسبة لمن لا يعرفه ـ هو أحد أبرز عناصر مدرسة "المؤرخين الجدد" الإسرائيلية التي قوضت علمياً من خلال أبحاث دقيقة التاريخ الإسرائيلي الرسمي والأساطير التي يتأسس عليها. والفكرة الأساسية التي يدافع عنها "ساند"، هي أن الهوية اليهودية ليست طبيعية أو تلقائية، بل هي حصيلة الأيديولوجيا الصهيونية في القرن التاسع عشر، التي أعطت للرباط الديني الجامع بين الشعوب اليهودية إطاراً قومياً بحسب نموذج القوميات الأوروبية السائدة أوانها. ولأجل بناء هذه الهوية الجديدة، حولت الحركة الصهيونية العلمانية الرموز الدينية من السجل العقدي اللاهوتي إلى المتخيل الثقافي العام. وليس في الأمر أي طرافة ولا إبداع، ذلك أن النزعات القومية في مجملها تميل إلى إعادة بناء الماضي لافتكاك شرعية بعدية لطموح راهن، من خلال استثمار ناجع للميثولوجيا. ولقد توزع بناة المشروع الصهيوني إلى تيارين بارزين هما من جهة التيار المتأثر بالأدبيات القومية الألماني ، ومن أبرز ممثليه "تيودور هرتزل " و"موسى هس"، ومن جهة أخرى التيار "اليديشي" الذي ظهر في شرق أوروبا حيث التنوع القومي الكثيف. وإذا كان التيار الجرماني أبعد عمقاً فكرياً لاستناده إلى مقومات نظرية مستوحاة من الفلسفات القومية والرومانسية الألمانية، فإن التيار "اليديشي" أكثر حيوية لاعتماده على مقومات ثقافية مشتركة أبرزها اللغة "اليديشية" نفسها المستخدمة على نطاق واسع في أوساط الجاليات اليهودية في بولندا وأوكرانيا وروسيا ورومانيا. وما يجمع التيارين هو النزعة العلمانية غير الدينية، التي أخذت شكل مقاربة عرقية بالمفهوم البيولوجي السائد أوانها للتصورات القومية. وهكذا تحولت اليهودية من ثقافة دينية غنية ومتنوعة إلى مفهوم جديد لـ"شعب متجانس"، وإن كانت له خاصية فريدة هي تشتته وافتقاده لوطن جامع. ولذا نجد أن "زئيف جابوتنسكي" أحد مؤسسي المشروع الصهيوني يعرف الأمة بكونها تقوم على محددين أساسيين هما: "النوع العرقي" و"العقلية"، أما الأرض واللغة والتاريخ المشترك، فليست سوى اعتبارات ثانوية لا تدخل في المكونات الجوهرية للأمة. ومن هنا ولجت السردية الدينية إلى السجل الأيديولوجي ليس كقاعدة مرجعية، وإنما كإطار تعبوي لاستكمال الهوية المترتبة على وجود الوطن الجامع. ولعل أهم ما يبينه "شلومو ساند" في الكتاب المذكور هو أن المقولات الرئيسية التي يستند إليها المشروع الصهيوني ليست في أساسها مفاهيم دينية قديمة، بل هي حصيلة تصرف وتحوير واسعين في التراث اليهودي. فمقولة "الشتات" مثلا جديدة، استعيرت من اللاهوت المسيحي الذي أعطاها شحنة قدحية لإقصاء وعزل الجاليات اليهودية، ثم تبناها الصهاينة الأوائل في اتجاه تأكيد "وحدة الشعب اليهودي"، الذي تفرق في الأرض بعد انهيار "الدولة اليهودية الأولى" على يد الرومان . كما أن مقولة "الميعاد" حولت من بعدها اللاهوتي المرتبط بفكرة المسيح المنتظر في شكل معجزة إلى عقد وهمي مع أرض تحتل بقوة السلاح لبناء الدولة "الممنوحة من الإله". ومع أن مؤسسي الدولة كانوا في أغلبيتهم غير متدينين، بل ملحدين، إلا أنهم استندوا إلى الميثيولوجيا التوراتية لتكريس "شرعية " الدولة الدينية. فهذا بن جوريون في كتابه "قراءات في التوراة" يصف الكتاب المقدس بأنه "بطاقة تعريف الشعب اليهودي"، وهذا الجنرال موشيه ديان وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق يكتب كتابا بعنوان "العيش مع التوراة" يقرأ فيه عدوان 1967 بأنه إحياء للدولة اليهودية في حدودها التوراتية. ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن الأعمال الأركيولوجية والتاريخية المنشورة مؤخراً، قد قوضت بالدليل العلمي القطعي الميثولوجيا التوراتية (أهمها كتاب إسرائيل فنكلشتاين ونيل اشير سلبرمان الذي صدر بعنوان كشف الغطاء عن التوراة) . فلا أثر حفريا للهجرة العبرية إلى فلسطين، ولا لإمبراطورية سليمان وداود الشاسعة، ولا للهيكل المدمر والسبي البابلي ...كما أن وجود الجاليات اليهودية في الفضاء المتوسطي الجنوبي والشرقي ليس راجعا إلى حالة التشتيت والتهجير القسري، وإنما إلى حركية اعتناق السكان المحليين للديانة اليهودية. وبتحطم هذه الأساطير، عاد الحوار مجددا إلى مشروعية "الدولة اليهودية" والعلاقة بين مكونها الديني اللاهوتي وطبيعتها الديمقراطية المعلنة. فالمعروف أن إعلان الدولة الصادر عام 1948 تضمن بوضوح أن الدولة تضمن حقوقا متساوية لمواطنيها دون تمييز في العقيدة أو العرق أو الجنس، إلا انه عرفها في الآن نفسه بأنها "دولة الشعب اليهودي"، وكرس هذه الهوية في مبدأ "حق العودة" الذي يعطي اليهودي مهما كانت جنسيته وقوميته حق المواطنة . ومن هنا التساؤل المشروع عن تصنيف إسرائيل داخل الفضاء الديمقراطي الذي كثيرا ما تدعي احتكار الانتساب إليه في المنطقة. ولعل الصفة التي يتعين إطلاقها على الدولة اليهودية هي عبارة "الديمقراطية الإثنية" التي نستعيرها من عالم الاجتماع الإسرائيلي "سامي سموحا". ويعتبر "سموحا" الديمقراطية الإسرائيلية من بين "الديمقراطيات الناقصة"، التي تجمع بين التمييز والإقصاء من جهة وبعض أشكال التعبير الحر والمنافسة السياسية التعددية من جهة أخرى. فلا هي تدخل في أي من أصناف المجتمعات الديمقراطية الثلاثة: الديمقراطية الليبرالية التي تتميز بإعطاء الأولوية لحقوق المواطنة الفردية، والديمقراطية الجمهورية التي تضبط الحريات العامة في سياق الولاء القوي للرباط الجماعي، والديمقراطية التنوعية التي تكرس حقوق التميز الثقافي ضمن ضوابط التعددية السياسية. فالحالة الإسرائيلية لا تصنف في أي من هذه الأطر لافتقادها لمبدأ المساواة القاعدية في الحقوق بين مواطنيها المنقسمين إلى مواطنين منسجمين مع هوية الدولة (ولو كانوا مهاجرين) ومواطنين غريبين عن هذه الهوية (ولو كانوا من السكان الأصليين). فما يريده نتانياهو من الصفقة الجديدة المعروضة علينا هو إضفاء الشرعية على واقع التمييز والإقصاء القائم الذي هو السمة الملازمة لمفهوم "الدولة اليهودية".