الحقائق التاريخية تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن "حائط البراق"، جزء من المسجد الأقصى، ويبلغ طوله 58 متراً وارتفاعه نحو 20 متراً، ويضم خمسة وعشرين مدماكاً من الحجارة السفلية، ويبلغ عمق الحائط المدفون تحت سطح الأرض نحو ثلث الحائط الظاهر فوقه. وسمي "حائط البراق" لأن النبي صلى الله عليه وسلم ربط دابته "البراق" فيه يوم إسرائه إلى المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله آتياً من المسجد الحرام في مكة، ثم امتطاه الرسول الكريم ليعرج به إلى السموات العُلى حتى سدرة المنتهى. والحائط جزء من جدار المسجد الأقصى ومن سور البلدة القديمة الذي أقيم أول مرة في عهد اليبوسيين قبل الميلاد بعشرات القرون. وقد وقعت في مدينة القدس اضطرابات كبيرة بسبب إساءة اليهود استعمال الحقوق التي تسامح المسلمون معهم في شأنها بزيارة الحائط والتبرك به، لذلك شكلت عصبة الأمم في 15 مايو 1930 لجنة دولية ثلاثية من غير المسلمين وغير اليهود لدراسة موضوع حائط البراق والحقوق المدعاة فيه من قبل المسلمين واليهود، وقد أصدرت اللجنة تقريرها في أول ديسمبر 1930 لتؤكد أن ملكية الحائط الغربي تعود للمسلمين، ولهم وحدهم الحق العيني فيه لكونه يؤلف جزءاً لا يتجزأ من مساحة الحرم الشريف التي هي أملاك الوقف. وأشارت اللجنة أيضاً إلى أحقية المسلمين في ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط وأمام حارة المغاربة. ورغم هذه الحقائق التاريخية الدامغة، تذكر الموسوعة اليهودية أن حائط البراق جزء من جدار هيكل سليمان الذي جرى تدميره الثاني في العام 70 ميلادية، وهو يعد من أكثر الأماكن قدسية في الشعائر اليهودية، لذلك أطلق عليه اليهود اسم "الحائط الغربي"، واستطاعوا بعد نكسة 1967 الاستيلاء عليه وعلى باب المغاربة التابع للمسجد الأقصى، ودمروا حارة المغاربة الملاصقة له وحولوها إلى ساحة للعبادة تابعة للحائط. ويحج اليهود إلى هذا الحائط ويبكون على أطلاله، لذلك يسمى "حائط المبكى"، وهذا البكاء اليهودي له دلالات عدة: إما حزناً على ما اقترفته أيديهم بحق البشرية عامة، والفلسطينيين خاصة، وإما حزناً على ابتلائهم بحكومات صهيونية تسعى للحرب على حساب السلام والاستقرار، وإما بكاء التماسيح التي تأكل ضحاياها ثم تذرف عليهم الدمع، ليس حزناً بل فرحاً لأنها ملأت بطونها، وعادة ما يترافق مع البكاء الزج بأوراق صغيرة إلى داخل الجدار تحوي أطماع اليهود وطموحاتهم. والذي يهمنا هنا هو أن حائط المبكى بات رمزاً للشكوى وقلة الحيلة والأمل دون عمل، وانتشر وأصبح وباءً يجتاح كل بيت ومجتمع وحكومة، بل إن بعض الدول العربية قد أصابها هذا الوباء، ومن ثم يمكن اعتباره من حفريات زمن التردي وآثاره الفاسدة التي ستحمل ذكريات أليمة عن هذا العصر. حائط مبكى هذا العصر، بل ربما في كل العصور، يعتبره البعض مصباح علاء الدين القادر على أن يطيب الخاطر ويداوي الجراح ويلبي الطلبات والأمنيات والطموحات والآمال البعيدة المنال دون حاجة إلى عمل أو جد أو اجتهاد أو سعي دؤوب لتحقيقها، لذلك يتنوّع حائط المبكى ويختلف من مكان إلى آخر لكن النتيجة واحدة، فهناك كسول يفتقر إلى إرادة الفعل ويلجأ للحائط على أمل أن يعود منه سعيداً. والبكاء الذي نعنيه هنا ليس الدموع نفسها أو النحيب في حد ذاته، رغم عدم إنكار أهميتهما في إحداث التأثير المطلوب وتحقيق المرام، بل نقصد به الاتكال والتواكل لقضاء المصالح بأنواعها دون تخطيط وحشد للوسائل والقدرات اللازمة لتحقيقها، فيتم الاعتماد على الدول الصديقة والحليفة، رغم إيمان الكثيرين المسبق بأن "الجماد" لا يقضي مصالح، بل العرق والجهد والأخذ بالأسباب والوسائل. لذلك نجد أن من شروط التعامل مع حائط المبكى المعاصر انتفاء التمسك بالأسباب، والتنصل من فرض السعي، والتحلي بسمات التمسح وطرق البكاء وأساليب "الواسطة" والنفاق ولغة التملق. فالذي يلجأ إلى حائط المبكى، هو بعض الدول التي تواكلت واعتبرت أن صداقتها أو قربها أو معرفتها بالقادرين على الفعل، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، هي الطريق السهل لتحقيق المصالح والأهداف الحيوية والاستراتيجية دون عناء أو استعداد أو حاجة إلى التأهيل والخبرة والاجتهاد في العمل والبذل والعطاء والتفاني في أداء الواجب، لذلك فهي قد تحصل على ما لا تستحق، وربما يضيع حقها أو يجري اختزاله وسط تسرعها وحرقها للمراحل. وفي العائلة نجد أن حائط المبكى للزوجة أمها أو أشقاؤها، تلجأ إليهم لفرض مطالبها وسطوتها على الزوج دون أن تحاول هي القيام بواجباتها ومسؤولياتها تجاه أسرتها، ولو أنها تحملت هذه المسؤولية فعلا لدفعت بعلها طواعية لتلبية ما تطمح إليه أو تريده، دون حاجة لطريق حائط المبكى الذي قد تأتي نتائجه عكسية. أما حائط مبكى بعض الدول العربية "المنبطحة" فهو زعيم أو رئيس أو صاحب نفوذ في الدول العظمى والكبرى والمتقدمة، يتم تملقه والتودد إليه والتقرب منه لتحقيق المصالح وإحراز المكاسب دون الاعتماد على الذات وإعداد قوى البلاد لتتحمل مسؤولياتها. وتقوم بعض الدول العربية باللجوء إلى حائط المبكى كلما أرادت أن تحل أزمة خارجية أو حتى تواجه شأناً داخلياً متناسية أنها لم تأخذ بالأسباب ولم تبذل ما بوسعها وتتحول من السلبية ورد الفعل إلى الفعل، وهذا يتطلب عملا دؤوباً لبناء قوى الدولة الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، حتى تستطيع هذه الدول حفظ ماء وجهها، وتأخذ مكانها الحقيقي بين الدول. ومن المهم التأكيد على أن لبعض المسؤولين أيضاً حائط مبكى، عادة ما يكون رئيسه في العمل أو مديره أو الوزير المختص أو الأعلى منه، فيرمي عليه بهمومه أو مصالحه دون أدنى اعتبار لتحمل مسؤولية العمل العام وبذل الجهد والعرق لإيجاد الحلول الملائمة. وفي إحدى الدول العربية نجد أن حائط المبكى هو الاسم الذي اختاره مواطنوها، طوعاً أو كرهاً، للتندر بالقبة البرلمانية وبأعضاء البرلمان، فعلى حائطها ذرفت دموع وسكبت دماء العاطلين من حملة الشهادات العليا على أيدي رجال الشرطة والأمن. وهذا الأمر يمكن أن ينطبق على دول عربية كثيرة، وقد انطبق على معظم مجالات الحياة، لكن الأخطر منه هو حائط المبكى عند المسؤول لأنه يصادر الحقوق ويختزل الأولويات ويتجاوز الكفاءات وينحاز إلى "الواسطة" والمعارف والأقارب والأصدقاء والمتملقين. وعادة ما يتسع حائط المبكى أو يضيق، ويرتفع أو ينخفض في تناسب طردي مع مكانة الدولة ونفوذها وسلطانها وسطوتها وقدرتها على تحمل العويل والشكوى من الدول الأخرى، فكلما كانت الدولة "الحائط؛ قوية وكبيرة كان حائط المبكى أكثر اتساعاً وارتفاعاً وزاد أمامه البكاء والعكس صحيح، ولا فرق هنا بين دول عربية مهمة أو غير ذلك، فكلهم أمام حائط المبكى سواء. محظوظة الدول التي تجد حائط مبكى قريباً منها، أو تستطيع الوصول إليه، فقد أصبحت أحلامها أوامر، وطلباتها مجابة، ومكانتها عالية، ومصالحها محمية، فحائط المبكى هنا وسيلة من لا وسيلة له، وحيلة من لا يملك مفاتيح النجاح الحقيقية والعملية، في ظل سيادة مبدأ الغاية تبرر الوسيلة كما قال مكيافيللي. وبعيداً عن شر العولمة وآثارها، وتجنباً لنتائج وتداعيات ثورتي الاتصالات والمعلومات، ومن غير الخوض في أحاديث نهاية التاريخ وصراع الحضارات، نجد أن مرتادي حائط المبكى المعاصر يقول لسان حالهم: "رب حائط خير من ألف عمل، ورب مبكى يُعفي من المسؤولية، فالقرب من القوى العظمى يقضي على القلق، والتقرب من الإمبراطورية يزيد من البركة ولا يحتاج إلى الحركة".