في حديث صحفي للمؤرخ الإسرائيلي الشهير "شلومو ساند" لصحيفة "فرانكفورتر روندشاو" الألمانية، أكد صاحب كتاب "كيف تم اختراع الشعب اليهودي؟"، أن مطالبة إسرائيل للفلسطينيين بضرورة الاعتراف بيهوديتها، سيقود إلى مخاطر واضحة، منوهاً إلى أن "نحو ربع سكان إسرائيل ليسوا من اليهود، كما أن استخدام كلمة (يهودي) يقلص من الوصف، على العكس من كلمة (إسرائيلي) التي تشتمل على مفهوم أوسع". وأشار ساند إلى "عدم وجود ما يسمى بـ(الشعب اليهودي) نظراً لأن اليهودية ديانة وليست أمة"، مبيناً أن "هناك شعباً إسرائيلياً في ظل حقيقة لا تقبل الشك وهي وجود دولة إسرائيلية"، على عكس أطروحة "الشعب اليهودي" المستجدة! ربما تكون تصريحات ساند أبلغ رد على ما تفوه به رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو حين أعلن في خطابه، ولو بشكل موارب لكنه واضح، رفضه لمبادرة السلام العربية ولطروحات الرئيس الأميركي أوباما المعلنة من القضية الفلسطينية، مقدماً عرضاً متكاملا لشروط إسرائيل من أجل الموافقة على مشروع "أوباما الإقليمي لصنع السلام"، وملخصها: أولا؛ التمسك بشرط اعتراف الفلسطينيين بـ"يهودية إسرائيل"، أي أنه يرمي -ضمن أمور أخرى- إلى ترسيخ فكرة تهجير مليون ونصف المليون فلسطيني من أراضي الـ 48. وثانيا؛ رفض حق العودة للاجئين الفلسطينيين، ودعوته الصريحة لحلها "خارج حدود إسرائيل". وثالثاً؛ التمسك بالقدس "عاصمة موحدة" (ولو أنه لم يذكر للمرة الأولى عبارته الإضافية المفضلة: "تحت السيادة الإسرائيلية")! وأخيراً: دعوته العرب إلى التطبيع مع إسرائيل لتعزيز تحقيق سلام اقتصادي! وهذه الشروط -بالمحصلة- تناقض تماماً كل بند من بنود مبادرة السلام العربية. أما حديث نتانياهو عن الدولة الفلسطينية فجاء مشروطاً بعدم التخلي عن "الاستيطان" و"القدس الموحدة"، مع عبارات مبهمة تعني، عملياً، رفضه الانسحاب من كامل الأراضي المحتلة ووضع الدولة الفلسطينية تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية، وزعمه أن الضفة الغربية هي -تاريخياً- ليست أرضاً عربية؛ ذلك أنها وفق زعمه: "أرض آبائنا، أرض إسرائيل، وموطن (الشعب اليهودي)". وفي اليوم التالي، دافع نتانياهو عن الشروط التي وضعها لقيام دولة فلسطينية، وقال في مقابلة لشبكة "ان بي سي" إن "الإسرائيليين لهم الحق في أن يتوقعوا أن تكون تلك الدولة منزوعة السلاح"، مضيفاً: "تماماً كما يتوقعون منا أن نعترف بدولة فلسطينية، عليهم أن يعترفوا بدولة يهودية. وبالطبع فالدولة الفلسطينية يجب أن لا تهدد الدولة اليهودية، وهذا هو السبب الذي يجعلني أريدها أن تكون دولة منزوعة السلاح". وهكذا فإن نتانياهو يريد الاعتراف بالدولة اليهودية، والتطبيع معها على أساس يهوديتها، مع تجريد الدولة الفلسطينية من أسس الدولة أي تأسيس (خلق) شيء ما يشبه الحكم الذاتي، أو بالأحرى، مجرد "محمية" إسرائيلية! ومع أن نتانياهو وافق، للمرة الأولى، على "مبدأ" قيام دولة فلسطينية (طبعاً مع تفريغها من أي مضمون سيادي حقيقي) و"فتح طريقاً"، كما يرى الغرب، نحو حل للنزاع، غير أنه سارع إلى إغلاقه بشروط غير مقبولة. ويقول "بين كاسبيت"، كاتب الافتتاحية في صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، إن "السلام لا يصنع بهذه الطريقة... حين نفرض شروطاً كثيرة ونقول: إذا، وإذا، وفقط إذا، وربما، وذات يوم... فكل ما ننجح في تحقيقه هو إثارة غضب شريكنا الفلسطيني وإهانته". كما علق الدكتور "رون بونداك"، أحد صانعي اتفاقات أوسلو قائلا: "إن كلمة (لكن) هي التي تقضي على كل ما تبقى. إن الشروط التي وضعها نتانياهو لا تنبئ بالخير". وشاطره الرأي الأستاذ الجامعي "مناحيم كلاين"، الاختصاصي في نزاع الشرق الأوسط، حيث قال ساخراً: "إنه خطاب كان يمكن أن يلقيه الرئيس الأميركي السابق بوش الابن. الإسرائيليون هم الصالحون الذين يريدون السلام، والفلسطينيون هم الأشرار الذين يترتب عليهم إثبات إرادتهم في السلام". وتابع كلاين: "إن العالم يتقدم بسرعة أكبر من نتانياهو. كان يجدر به أن يُظهر قدراً أقل من التعالي والمزيد من التعاطف مع الفلسطينيين، وهو ما أحسن القيام به باراك أوباما" حيال المسلمين في خطابه في القاهرة. في ضوء كل ذلك، يتضح، من أي قراءة هادئة لما وراء الكلمات في خطا (نتانياهو) أنه جاء -مثل الشخصية السياسية لنتانياهو نفسه- خطاباً "ملتبساً"، وعلى نحو مقصود، بهدف انتظار تطورات المستقبل. فهو، بشكل جليّ، خطاب تضمن كلمات وعبارات حمالة أوجه تجعله صالحاً لأن يكون مرآة تعكس أيديولوجيته وأيديولوجية حكومته (العنصرية والمتطرفة) التي هي بمثابة نسف لكل الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني. وحقاً لم تكن هناك في الخطاب -بما في ذلك التباسه المتوقع- أي مفاجآت من العيار الثقيل. بل إن تصريحات نتانياهو قبل الخطاب كانت مؤشراً على فحواه. كما أن تحليل خطواته وممارساته، في الأشهر الأخيرة، تدل على أنه يفضل شخصياً تعزيز قاعدته في اليمين على الانتقال إلى الوسط. غير أن المفاجأة الكبرى في أعقاب انتخابه تمثلت في صعود الرئيس أوباما وطروحاته وضغوطه "الناعمة" حتى الآن، الأمر الذي جعل نتانياهو يغازل إمكانية التحرك نحو الوسط ليضمن نفسه على رأس السلطة من جهة أولى، وكي يحتاط من ناحية ثانية، وبالذات إن كثرت الضغوط عليه، لتشكيل حكومة جديدة تضم حزب المعارضة الأكبر (كاديما) على حساب القوى المتطرفة التي تحاول تكبيله بخطابها الأيديولوجي المتطرف. ومع أن خطاب (نتانياهو) -الذي صيغ بكلمات مطاطية بل هلامية- ليس قانوناً ملزماً، إلا أنه تضمن طرحا يكشف حقيقة لا يمكننا التغاضي عنها ألا وهي أنه، من خلال اشتراطه الاعتراف بيهودية إسرائيل، يسعى لإفشال المفاوضات مع الفلسطينيين عبر إظهار ضعف السلطة الفلسطينية باعتبارها غير قادرة على تقديم تنازلات "مؤلمة" شبيهة بتلك التي سيقدمها هو! وبهذا فإنه "يشتري الوقت اللازم" لحدوث متغيرات؛ كأن تتبدل فجأة إدارة أو تغير من طروحاتها. أما "حجر سنمار" في "بناء" السلام، أو "كعب أخيل" في "جسد" التسوية، فإنه يتجلى في مقولة "الدولة اليهودية". ومما يفاقم من خطورة الأمر كون طرح نتانياهو، في جانب منه، وباشتراطه اعتراف الفلسطينيين (والعرب) بيهودية الدولة، إنما يتبنى موقفاً عاماً لأركان حكومته، عبّر عنه "زعماء" تلك الحكومة، مراراً وتكراراً، حين أجمعوا على ضرورة أن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل بوصفها "دولة يهودية" كشرط أساسي غير قابل للنقاش! وبهذا فإن ما عرضه نتانياهو كان خطة إسرائيلية لاستمرار الصراع مع الفلسطينيين والعرب لابتزاز مزيد من التنازلات منهم، وصولا إلى "دولة لحد" أو "دولة سعد حداد" بصيغتها الفلسطينية، وليس عرضاً لصنع "التسوية التاريخية" التي طال الحديث عنها!