لم يفاجئني شيء في خطاب نتانياهو فموقفه من السلام معروف، ولكنه باح ببعض ما كانت تخبئه إسرائيل من رؤية استراتيجية للمستقبل، وهو خطاب يفرض على العرب عامة وعلى الفلسطينيين بخاصة أن ينتهوا من التفاؤل الحذر أو التشاؤم المنفرج بسيل الخطابات والتصريحات التي تلقى عليهم كل يوم، وهي ترسم لهم صورة غدهم وتطمئنهم إلى أنهم إذا أحسنوا ترويض الشرسة إسرائيل وكسبوا رضاها فستعطف عليهم وتمنحهم شيئاً ما من حقوقهم. ولقد أوضح نتانياهو أنه يريد من العرب استسلاماً كاملا مقابل دويلة شكلية منزوعة السلاح والسيادة، روحها بيد إسرائيل التي تتحكم بكل شيء فيها من مائها إلى طعامها إلى مصيرها. ولابد أن في رؤية التفاصيل ضرورة تحديد النسل الفلسطيني، كما أوضح نتانياهو رفضه لحق اللاجئين في العودة، ورفضه وقف الاستيطان بوصفه نمواً طبيعياً، ولا حق للفلسطينيين في أرض إسرائيل! وبالطبع كان واضحاً في رفضه أي حق للفلسطينيين في القدس فهي عنده عاصمة أبدية لإسرائيل وحدها، وهو يضع شرطاً مسبقاً لأية مفاوضات مقبلة، حيث يطلب اعترافاً مسبقاً بالدولة اليهودية وبالمجان! والمفارقة أن بعض القادة في المجتمع الدولي وجدوا في خطاب نتانياهو خطوة مهمة نحو الأمام لمجرد أنه تفضل وتكرم بإعلان القبول بدولة فلسطينية، مما يجعل المرء يسأل: على أي شيء إذن كانت تدور المفاوضات الإسرائيلية مع الفلسطينيين منذ أن بدأت عملية التسوية؟ وهذه الرؤية التي وضعها نتانياهو لمستقبل السلام تعني بوضوح رفضاً للمبادرة العربية، وهذا الرفض ليس مفاجئاً فما سمي بمفاوضات الحل النهائي كان مستبعداً دائماً، لأن الإسرائيليين كانوا يستهلكون الوقت في المفاوضات لفرض وقائع يصعب تغييرها، وهم الآن يوشكون على الانتهاء من تهويد القدس، وأما مستوطناتهم فقد أكلت كل الأرض فلم يبق للفلسطينيين ما يفاوضون حوله. وقد أحكمت إسرائيل الحصار على الشعب الفلسطيني غير عابئة بشيء مما دعتها إليه المجتمعات الدولية والإنسانية التي عقدت قمماً واجتماعات دولية استخفت بها إسرائيل، ولم يحاسبها على موقفها أحد، فهي الآمرة الناهية التي يتزلف إليها قادة كبار في العالم، وهذا ما يفسر المواقف التي أشادت بالخطاب لأن انتقاد نتانياهو مكلف، وبالطبع لم يكن مفاجئاً كذلك تأييد غالبية الإسرائيليين لخطاب نتانياهو، فالجيش الإسرائيلي الذي يقتل ويفتك يمثل هذا التفكير العنصري الذي عبر عن عقيدته ضابط إسرائيلي سأله المحقق العسكري الإسرائيلي عن سبب قتله لأطفال فلسطينيين في عمارة في غزة فقال قتلتهم لأنهم عرب، واقتنع المحقق بالمبرر! إن هذه الوقائع التي تفرض نفسها تجعل منطقتنا مهددة بحروب قادمة ودمار كبير، وعلى رغم أننا نريد السلام ونسعى إليه وندعو الله أن يجنب بلادنا العربية والعالم كله شر الحروب فإننا ينبغي أن نفهم أن خطاب نتانياهو يقلب مائدة السلام ويفتح المزيد من العدوان على الحقوق العربية، وإذا كان مطمئناً إلى أن هذا الجيل العربي أضعف من أن ينتزع حقوقه بيده، وقد بذل الكثير لكن العالم كله يكاد يقف مع إسرائيل التي تدعمها الولايات المتحدة ودول كبرى في أوروبا، فإن الليالي حبالى كما تقول العرب (يلدن كل عجيبة)، وهذه الأجيال وارثة لحق لا يموت، والعرب يؤمنون بأنه لا يضيع حق وراءه مطالب، وسلوك إسرائيل سيحفز الأجيال القادمة على مزيد من التمسك بحقوقها. وسيكون واهماً من يظن أن استناد إسرائيل إلى دعم مطلق من الولايات المتحدة يضمن لها المستقبل، على رغم تأكيد الرئيس أوباما أمام العرب في القاهرة التزام بلاده بضمان مستقبل إسرائيل، وتأكيده على أن علاقة الولايات المتحدة مع إسرائيل غير قابلة للكسر، ولئن كان أوباما قد قدم نوعاً ما من التوازن في خطابه، فإن خطاب نتانياهو كسر الحد الأدنى منه وأطلق العنان للتطرف. لقد تجاهل نتانياهو كل الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، وتجاهل أن اليهود اغتصبوا فلسطين وجعلوها دولتهم قبل عام واحد من يوم ولادته، وهو يظن أن إسرائيل بعد ستين عاماً من قيامها بسرقة الأرض العربية تمكنت بنجاح من جعل القضية الفلسطينية قضية الفلسطينيين وحدهم، وأخرجت العرب من المواجهة، وهي تعمل على إقناعهم اليوم بأنها وإياهم في خندق واحد. وهو يتجاهل أن إسرائيل جربت في عهد أسلافه باراك وشارون وأولمرت القضاء على من يعاندون إرادتها فلم تفعل سوى أنها قتلت ودمرت وظهرت أمام العالم وحشاً فاتكاً، ولكن المتمسكين بحقهم ازدادوا صلابة وقوة وإصراراً، وسيتابع أطفالهم المسير على طريق التضحية وقد صار طريقاً إجبارياً لن تجد الأجيال بديلا عنه ما دامت إسرائيل لا تقدم لهم غير الموت والتشريد والتجويع. ولم يعد بوسع أحد أن يقنع أصحاب الحقوق بأن طريق السلام مفتوح، فالسلام الذي تحدث عنه نتانياهو هو استسلام وإذعان مهين، والدولة التي وعد بأن يوافق على إقامتها دويلة وهمية، وأما رفضه الصريح لحق اللاجئين في العودة فهو رفض لقرارات الشرعية الدولية، ورفضه لإيقاف الاستيطان استهانة بالموقف الأميركي نفسه، وطلبه الاعتراف المسبق بإسرائيل اليهودية مبالغة في الغطرسة. بل إن التأكيد على الجانب الديني في طبيعة إسرائيل سيشجع على نشوء أضداد من ذات الطبيعة، ولئن وقف العرب والمسلمون صامتين في انتظار الفرج القادم من راء البحار، فإن صورة المستقبل ستزداد سوءاً وسيمنحون إسرائيل مزيداً من الفرص لفرض وقائع جديدة. وعلى صعيد شعبي يدرك الوجدان العام أن ما يتم طبخه عبر مسرحية الخطابات هو في النهاية ترسيخ التوطين، والعمل على تشريد وتهجير فلسطينيي الـ48، ولولا أن الحكومة الإسرائيلية لم توافق على مشروع ليبرمان بقسَم الولاء ليهودية إسرائيل (والواضح أنها أرجأته) لوجدت إسرائيل المبرر لطرد كل فلسطينيي المعتقل. وقد يحدث ذلك وقد تقوم إسرائيل بقضم المزيد من أراضي الضفة، فنتانياهو ممن يؤمنون بأن الضفة الغربية، هي يهوذا والسامرة والقدس وفي الكتب المدرسية الإسرائيلية تدرس على أنها أرض إسرائيل التي وحد أسباطها داود الذي احتل الأرض وانتزعها من اليبوسيين، وقد اطلعت على كتاب لباحثة إسرائيلية اسمها "رنا هبرون" تؤكد فيه للطلاب والقراء أن اليهود هم وحدهم أصحاب الحق في يهوذا والسامرة وأنه حق توراتي، ومثل هذا المنطق يضع المتفائلين من العرب بكون الخيار السلمي خياراً وحيداً لا يحتاج إلى دعم من المقاومة، يشعرون بالحرج. وإذا كان أوباما مضطراً لأن يشخص الخطر في المنطقة على أنه خوف أطفال إسرائيل من صواريخ غزة، فإن العرب يدركون أن الخطر الحقيقي هو ترسانة نووية إسرائيلية قادرة على أن تهدم العواصم العربية والأوروبية معاً. ولقد أشار أوباما إلى مأساة اليهود الذين عانوا من الهولوكست، وهذه حقيقة لن تهرب منها أوروبا لأن الحقد اليهودي المتطرف سيبقى يجلد الأوروبيين بسياط المحرقة، ولن ينسى أن أوروبا أذاقت اليهود هذا العذاب. وأن ما دفعه ويدفعه الأوروبيون من حساب العرب تكفيراً عن هذه الجريمة لن يكفي، والمفارقة أن الأشد تطرفاً من نتانياهو من أعضاء "الكنيست" وأعضاء "الليكود" عبروا عن شعورهم بالصدمة لأن نتانياهو ذكر كلمة دولة فلسطينية، ولقد تابعت بعض التعليقات الإسرائيلية على الخطاب فوجدت فيها ما يضحك مثل قول "آرييه إلداد" من الاتحاد الوطني: "إن نتانياهو فقد قيادة معسكر اليمين لأنه وافق على دولة فلسطينية منزوعة السلاح، إنه يريد أكل لحم خنزير مذبوح حسب الشريعة اليهودية، ولكن هذا غير موجود".