مازالت الجثث تنتشل من عمق المحيط لمن نجوا من أسنان سمك القرش. وأذكر جيداً من صديق لي حين قال: إذا دخلتُ الطائرة لم أعد أسمع تعليمات السلامة، من الأقنعة وخلع الأحذية، والهرع إلى منافذ النجاة، والخروج والقفز في الزورق المطاطي بدون أحذية، والانتباه إلى حزام الربط... وما شابه! سألته: لماذا؟ قال: لأنه لن ينفعني هذا كله بشيء، فلن أنجو أنا... ولا من يتلو علي نصائح النجاة من المضيفات! ولن ينجو أحد قط إلا بمعجزة كما في طائرة الانديز التي وقعت في الجبال، ومثلوها بفيلم "على قيد الحياة" (Alive) وبقي بعضهم أحياء لمدة 72 يوماً، حين أكلوا لحوم من مات، وشربوا الثلج! وكلام صديقي ينطبق تماماً على حادثة الطائرة الفرنسية التي سقطت في عرض المحيط الأطلسي، يوم الأول من الشهر الجاري، وعلى متنها 228 راكباً بالإضافة إلى الطاقم، فلم ينج منهم أحد، ولم يعد منهم من يخبر عن الهول الأعظم، هو الحطام والغرق والاحتراق والتفحم والأشلاء المتناثرة... وفي جلسة خاصة سألت طياراً عن توقعاته حول مقدار الألم الذي عانى منه أولئك الركاب قبل الموت. قال: إذا انفجرت، فهو غياب وعي سريع بألم قليل، وإلا جرعة الرعب الهائلة والطيارة تهوي، ومعها تدور أعينهم في المحاجر كالذي يغشى عليه من الموت! ثم تابع: بعض الناس يموتون رعباً، ومن كان في صحة جيدة قد يتحمل الألم أكثر، ومن كان عليلا خطفه الموت خطفة نسر جبار! سبحت في الخيال، وتذكرت قصة الأوديسة حين ترك رفاق أوديسيوس قائدهم عند الساحرة سيرسا، في رحلة العودة بعد تدمير طروادة! انطلقوا في العاصفة فلم يعُد منهم مخبر، وحين عرضت الساحرة على أوديسيوس الخلود مثل آلهة الأوليمب! قالت له: عندنا اليوم لقاء عامر وسوف يقع الرهان على أحد البشر كي يدخل حياة الآلهة فيمنح الخلود! رفض أوديسيوس وقال: لا بل أموت إنساناً بتواضع! نظرت إليه الساحرة سيرسا الجميلة، والتي تشبهت بشكل زوجته بينلوبي، وقالت: يا معشر البشر أمام حماقاتكم، حتى الآلهة تبقى عاجزة؟ ثم التفتت إليه بعصبية وغضب، وقالت: هل تريد أن تعرف مصير الموتى؟ والتفتت إلى الخلف، ومن بين الدخان والبخار ظهر منظر تقشعر منه الأبدان، وأناً شخصيا كلما تذكرته أحسست بكهرباء في جلدي! كان المنظر للأموات وهم يخرجون من العالم السفلي، واحداً خلف الآخر، من أصدقاء أوديسيوس الذين حاصروا طروادة؛ فمنهم من قتل، ومنهم من مات لاحقاً! بطل اليونان أخيليس ثم أياكس ثم أجامنون! التفت إلى عالم الأموات أوديسوس مرتاعاً لا يصدق، وبدأ يتكلم معهم واحداً واحداً: أياكس، أخيليس... لقد صادفكم الموت وخلدكم كأبطال. يجيبون: يا أوديسيوس، في ظل الموت لا تبقى ذكرى وبطولة، نحن هنا في ظلال الموت والألم والحسرة والعدم! يصعق أوديسوس، ثم يرى رفاقه في السفينة التي غرقت، ويناديهم فرداً فرداً. وهنا أتذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، طبعاً مع الفارق الهائل، وهو ينادي صرعى بدر من المشركين في القليب: يا عقبة بن معيد، يا وليد بن عتبة، يا أبا جهل! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقد وجدت ما وعدني ربي حقا. ويقول القرآن الكريم: "ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيّ عن بينة"، وهو تحديداً ما حصل في بدر. قال رفاق أوديسوس كان الموت علينا مؤلمًا شديداً! لقد غرقنا في عرض البحر. ثم تأتي أعظم المفاجآت بما لم تفكر فيه حتى الساحرة؛ فطالما انفتحت بوابة الأموات، فاللقاء عجيب. لقد خرجت والدة أوديسوس تقول له؛ إن ابنه تيليماخ وزوجته بينلوبي ينتظرانه! يصعق أوديسوس وبعدها ينطلق في رحلة أسطورية لا يقف خلالها في طريقه شيء حتى يرجع إلى ملكه في أيتكا. وأنا أخاطب ركاب الطائرة الفرنسية: هل كان الموت عليكم شديداً؟ كيف ذقتم اللحظات الأخيرة وأنتم تفارقون هذه الحياة؟ وكيف هي الآمال التي كنتم عليها تبنون بعد هذه الرحلة؟ هل من رجل أعمال ومال أدرك أن كل الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة؟ هل من امرأة صالحة كانت تنتظر الموت، فلما رأته قالت: هذا ما وعدني ربني حقاً، رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين. رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين. واجعل لي لسان صدق في الآخرين. واجعلني من ورثة جنة النعيم، ولا تخزني يوم يبعثون. يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم.