هكذا، ببساطة، أمكن للجميع أن يكونوا شهوداً على انتخابات مصادرة مسبقاً، أو "مسروقة" كما وصفها أنصار المرشح "الإصلاحي" مير حسين موسوي. عاشت إيران تصويتاً ظنته لوهلة واعداً، فإذا بها تصفع بعملية "تخصيب" لنجاد، مكافأة له على استئنافه تخصيب اليورانيوم، وعلى سلسلة طويلة من المواقف الموجهة فقط لتأجيج الأزمة التي توصف بأنها "أزمة مع الغرب"، لكنها في الواقع أزمة مع إيران نفسها، لأن الأكمة النووية تخفي الكثير وراءها. نجاد رئيس شعبوي، لديه شعبية، لاشك في ذلك، لكنها لا تؤهله في أحسن الأحوال للفوز الواضح من الدورة الأولى، بل تمكنه من المضي بثقة إلى الدورة الثانية، كما في الانتخابات السابقة قبل أربعة أعوام. كان المناخ الشعبي يعد بالتغيير، وقلَّ ما كان هذا المناخ مخادعاً إلى هذا الحد. لو تركت العملية الانتخابية تأخذ مجراها الطبيعي، لكانت ربما أخرجت النتيجة نفسها، لكن في الدورة الثانية، وبفارق منطقي يمكن استشفافه في حركة الشارع وأدائه. إلا أن الرغبة في الحسم، وبسرعة، حتّمت "تفويز" نجاد ومواصلة الاعتماد عليه. كان هذا رأي المرشد وموقفه، فهو الناخب الأول، ولعله الناخب الوحيد، في بداية الحملة الانتخابية قطع الشك باليقين ليعلن عن مرشحه المفضل، معدداً مواصفات تنطبق كلها على نجاد، بدءاً من "أن يكون قريباً من الشعب" وصولا إلى "أن يكون مناوئاً للغرب"، وكان واثقاً بأنه فهم جيداً. لكن مجريات الحملة أفهمته العكس، أي أنه لم يُفهم تماماً، إذ برز المرشحون الآخرون، واستطاعوا أن يفرضوا أكثر من خيار أمام الناخبين. أكثر من ذلك، لعبت المناظرات المتلفزة دوراً في غير مصلحة نجاد، بل أظهرت هشاشة صورته وديماغوجية حجمه فضلا عن كشفها "أكاذيب الرئيس" كما سماها منافسوه. هنا بان الخطر، خصوصاً أن الشارع الإصلاحي صنع جواً مؤثراً واستنهاضياً، فكان لابد من مواجهته بشارع نجادي مضاد، وكذلك باستنهاض مضاد، أي: تصويت كثيف مقابل تصويت كثيف. البلد منقسم بحدة، وإذا كانت حقبة محمد خاتمي برهنت شيئاً واحداً على الأقل فهو أن الشعب الإيراني كأي شعب آخر يميل إلى"الإصلاحيين" بما يعنيه الإصلاح من تعزيز للحريات وتخفيف لوطأة المتشددين الذين يطمسون الحقائق أو يتجاوزونها، ويتلاعبون بالقوانين إلى حد انتهاكها إذا كان ذلك يخدم مصلحة سيطرتهم. ولم تفلح فترة نجاد في إقناع أحد بعدم الحاجة إلى إصلاح، بل على العكس أعطت انطباعاً خطيراً بأن حتى مسائل الحرب والسلم ومصير البلد والشعب باتت مستبعدة عن النقاش، ولا أهمية لوجود مجلس شورى أو وسط سياسي أو إعلام، فالحلقات الضيقة المرتبطة مباشرة بالمرشد هي التي تناقش وهو الذي يقرر، ولم تكن الطلعات الإعلامية لنجاد سوى مناسبات للتعمية أو لإرسال الرسائل الاستفزازية إلى الداخل والخارج، أما المناظرات المتلفزة بين المرشحين، فلم تستطع أن تحقق اختراقاً إلا في الموضوع المرخص به، أي الاقتصاد، بالإضافة إلى مقاربة سطحية لمسائل الحريات، فيما ظل موضوع البرنامج النووي محرماً. معروف أن هناك إجماعاً وطنياً على الخيار النووي، لكن يصعب تصور أنه إجماع مطلق، خصوصاً أن استقرار البلاد بات يتعلق به، ومن حق الإيرانيين قبل سواهم أن يعرفوا لماذا تتأرجح أوضاعهم بين احتمالي الحرب والسلم إذا كان البرنامج النووي للأغراض المدنية، وإذا كان هذا صحيحاً فلماذا لم يتوصل ساستهم إلى إقناع الخارج؟ لم تكن لهذه الانتخابات وظيفة إحداث تغيير في إيران، بل على العكس استقرت مشيئة المرشد على ضرورة إبلاغ الولايات المتحدة أن اقتراب الحوار معها لا يستحقه تبديلا للأحصنة. ومغزى الرسالة واضح في تأكيده أن التنازل في المسألة النووية غير وارد. قد يكون ذلك مناورة وقد يكون قراراً نهائياً. قد يكون خطأ لكن أحداً لن يحاسب المرشد. كل ما في الأمر أن فرضية مجيء رئيس "إصلاحي" لم تبد مريحة في هذه المرحلة، فـ"الإصلاحي" قد يطيع الأوامر على الأرجح، لكنه قد يعطي انطباعاً بأنه غير مقتنع أو مغلوب على أمره. لذلك بدأ نجاد خياراً مفضلا لدى المرشدية، فنجاد هو خامنئي، وخامنئي هو نجاد، ومن هنا فهو يستحق أن يُغضب المرشد الآخرين من أجله، ولا بأس أيضاً في أن يعطي هاشمي رفسنجاني إيحاءات تبين لاحقاً أنها خاطئة. طوال الحملة الانتخابية لم يتوقف التحذير من "التدخلات" للتلاعب بالنتائج. كانت المعطيات الطبيعية تظهر شيئاً من التكافؤ في معركة انتخابية واعدة، لكن استحقاق التفاوض مع أميركا استبعد هذا النزف وبدده. صوّت الإيرانيون بكثافة، وصوتت الأجهزة بكثافة أكبر، وخرج نجاد مجدداً من صناديق العجائب.