كما لو أن دخولها إلى القلعة الحصينة كان مرتباً وبتخطيط مسبق، تولت "روس روجومبي" رئاسة الجابون بالإنابة، وأدت القسم الدستوري يوم الأربعاء الماضي، لتصبح ثاني سيدة في إفريقيا تترأس بلادها، بعد إيلين جونسون في ليبيريا عام 2006. فعقب إعلان وفاة عمر بونجو، رئيس الجابون وأحد أطول الرؤساء الأفارقة مكوثاً في الحكم، وبموجب الدستور الجابوني، تم إسناد الرئاسة إلى رئيسة مجلس الشيوخ روجومبي لتتولى إدارة أمور البلاد خلال فترة انتقالية مدتها 45 يوماً، يتم أثناءها إجراء انتخابات رئاسية لاختيار خليفة للرئيس الراحل. وكان بونجو قد تولى السلطة في عام 1967 عقب وفاة أول رئيس للجابون بعد استقلالها، وأنشأ "الحزب الديمقراطي" كحزب حاكم وحيد. وفي بداية التسعينيات قَبِل بتعددية حزبية شكلية، وتم انتخابه لأول مرة عام 1993، ثم أعيد انتخابه عام 1998، وقام في عام 2003 بإلغاء القيد الدستوري على بقاء الرئيس لأكثر من ولايتين في الحكم، فأعيد انتخابه في عام 2006 لولاية جديدة مدتها سبع سنوات. وخلال 42 عاماً من الحكم، أصبح بونجو، وهو "عميد القادة الأفارقة" على عهده، والذي اعتنق الإسلام عام 1972، المتحكم الأوحد في مفاصل السلطة والحكم والقوة في الجابون، ما جعل منه مرادفاً لبقاء الدولة واستمرار النظام والسلم، وهو أمر يفسر لجوء سلطات العاصمة الجابونية البريفيل إلى تكذيب خبر وفاته في البداية، قائلة إن صحته تتحسن وإنه سيعود من إسبانيا خلال أيام. ثم تطلّب إعلان وفاته للشعب، إغلاق جميع المنافذ على العالم الخارجي، وفرض حالة استنفار قصوى على سائر الأراضي الجابونية. إن رجلاً بتجربة بونجو الذي تدرج من جندي في جيش الاحتلال إلى رئيس، وبقوة "عميد القادة الأفارقة" الذي حكم بلاده 42 عاماً... هو مَن تخلفه بالإنابة روجومبي، فما هي الخبرات التي تؤهلها للقيام بمهام الرئاسة؟ بعد سبعة أعوام على ميلاد بونجو، أي في عام 1942، وحين كان الاستعمار الفرنسي يحكم قبضته على إفريقيا الاستوائية التي ستعرف لاحقاً باسم الجابون... ولدت "روس فرانسين روجومبي"، في منطقة "لامبرين" الواقعة في جنوب البلاد. وهي تنتمي إلى اثنية "جالوا" الصغيرة القاطنة هناك. انضمت للمدرسة الفرنسية، ثم سافرت للدراسة في فرنسا، حيث نالت شهادة في القانون وعادت لتعمل قاضية في الجابون. ولفترة محدودة في أواخر الثمانينيات عُينت وزيرة للخارجية، قبل أن تغادر المجال السياسي متفرغة للعمل القضائي. أما عودتها للمجال السياسي، فكانت خلال الانتخابات المحلية عام 2008، حيث أصبحت رئيسة المجلس المحلي لمنطقة "لامبرين". وفي الانتخابات التشريعية للعام التالي فازت بعضوية مجلس الشيوخ عن الدائرة الأولى في منطقة "لامبرين". وبعدئذ تم اختيارها رئيسة للمجلس في فبراير 2009، حيث صوت لها 90 عضواً من أعضائه الـ99. وكان اختيارها من قبل بونجو لذلك المنصب، مفاجئاً للعديد من قادة الحزب الحاكم، خاصة أنها مغمورة نسبياً، وأنه منصب حساس، وأن بونجو كان قد بلغ سناً متقدمة وصحته معتلة. بيد أن رجومبي أظهرت قدرة على التعامل مع السلطة السياسية الحاكمة، بتقربها من الرئيس بونجو نفسه، وبفضل علاقة الصداقة التي ربطتها بعائلة جورج رواري، السياسي البارز الذي كان رئيساً لمجلس الشيوخ قبل وفاته عام 2006. ثم إن روجومبي التي تلقب بـ"السيدة الحديدية"، لم تكن شخصية مغمورة على كل حال، فجهودها في المجال الحقوقي معروفة، وهي لم تنقطع عن الحزب الحاكم، وإن كانت خارج هيئاته العليا. ورغم أن سنوات الحكم الطويلة لبونجو حالت دون إرساء قواعد ديمقراطية لتداول السلطة، فإن تولي روجومبي مهامها كرئيسة انتقالية للبلاد، وضع حداً للمخاوف من حدوث فراغ في السلطة، بل "رغم غياب الرئيس، فإن مؤسسات الدولة ما تزال تعمل"، كما قال المتحدث باسم الحكومة الجابونية. وبالطبع، لا مجال لبقاء روجومبي في السلطة أطول من الفترة المحددة دستورياً، كما أن القانون لا يسمح بترشحها لانتخابات الرئاسة التي ستجري خلال هذه الفترة، ولا يمنحها صلاحية إجرء أي تغييرات واسعة. وعلى أرض الواقع، هناك اتصالات حثيثة داخل الحزب الحاكم لترشيح أحد أعضاء عائلة بونجو لخوض انتخابات الرئاسة المنتظرة. فأحد أجنحة الحزب يؤيد وزير الخارجية "بول تونجي"، وهو زوج "باسكالين" (52 عاماً) الابنة البكر للرئيس الراحل والتي كانت تتولى إدارة ديوان الرئاسة. لكن الكثيرين يشيرون إلى وزير الدفاع "علي بن بونجو" (49 عاماً) باعتباره صاحب الحظوظ الأوفر في خلافة والده. فقد عينه في هذا المنصب عام 1999، وكان قد عينه قبل ذلك وزيراً للخارجية عام 1989، فيما يعتبر محاولة لإعداده لقيادة الجابون في مرحلة ما بعد بونجو الأب نفسه. وإلى ذلك، فإن فرنسا التي تبدي اهتماماً كبيراً بمصالحها في هذا البلد الإفريقي، الغني بثروته البترولية، والذي لا يتجاوز عدد سكانه 1.5 مليون نسمة، وكان رئيسه بونجو أحد حلفائها الأساسيين في القارة... تبدو حريصة على بقائه مستقراً. وقد رفضت مؤخراً فتح تحقيق قضائي في ما نسب إلى عائلة بونجو من تهم فساد، دلالة على متانة تحالفها مع "عميد القادة الأفارقة". ومن المؤكد أن باريس ترى ضرورةً كبيرة لبقاء عائلة بونجو في الحكم، وعلى الأرجح فإنها تفضل ابنه "علي". هذا إلى جانب الدعم الذي تحظى به العائلة من نظامي الكونجو وغينيا الاستوائية، لوجود مصالح تجارية وعلاقات مصاهرة بين قادة البلدان الثلاثة. وعلى كل حال، ثمة سيناريوهات عديدة محتملة، يتسم معظمها بصعوبة في انتقال السلطة، على غرار ما حدث في بلدان إفريقية أخرى مشابهة، لكن لا وجود لاسم "الرئيسة روجومبي" في أي من السيناريوهات المطروحة والمرتبة مسبقاً. محمد ولد المنى