"الحركة هي كل شيء، أما الهدف النهائي فلا شيء"... هذا ما كتبه "إدوارد برنشتاين" الديمقراطي الاشتراكي الألماني العظيم، والأب الروحي للديمقراطية الاشتراكية، في أواخر القرن التاسع عشر. والمفارقة أن "برنشتاين" لا يزال حتى اللحظة - وعلى الرغم من مقولته تلك - واحداً من المفكرين الاشتراكيين الكبار القلائل، الذين حققوا هدفهم النهائي، والذي تمثل في نجاحه في إقناع رفاقه الاشتراكيين برفض الوهم القاتل الخاص بالتحول الثوري، والاكتفاء بدلاً من ذلك بتبني قضية الإصلاح الديمقراطي الاجتماعي - الذي يتم يوما بعد يوم - للرأسمالية. فتحت راية برنشتاين تحركت الأحزاب الاشتراكية، والديمقراطية الاشتراكية، و"العمالية" الأوروبية بحرص، ونجحت على مدار القرن الماضي، في إقامة دولة الرفاهية في القارة الأوروبية، وهي نوع من الرأسمالية المخففة بالمنافع الاجتماعية وحقوق العمال. ولكن ما الذي حدث عندما فقدت الديمقراطية الاشتراكية، التي كانت قد تخلت منذ زمن طويل عن هدف التحول الاشتراكي النهائي ـ عندما فقدت حسها بالحركة؟ إجابة هذا السؤال تبدو واضحة في نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت الأسبوع الماضي في 27 دولة أوروبية، والتي تعرضت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية فيها"لهزيمة مهينة" سواء أكانت في الحكم أو في المعارضة. ففي بريطانيا وإسبانيا، حيث يسيطر حزب "العمال"، والحزب الاشتراكي - على التوالي -على الحكم، تعرض الحزبان لـ"علقة انتخابية ساخنة" خصوصاً حزب "العمال" البريطاني، الذي قدم أسوأ أداء حزبي له على الإطلاق منذ أن أصبح حزباً رئيسياً في بريطانيا في بدايات القرن الماضي. وقد جاءت هذه النتيجة بعد أن ظلت عبارة نجاة حكومة براون بـ"شق الأنفس" تتردد في وسائل الإعلام كما لو كانت حلقة يومية في مسلسل درامي. بالإضافة لذلك، تعرضت أحزاب "اليسار" إلى خسارة كبيرة في فرنسا وإيطاليا، حيث تمثل المعارضة، وفي ألمانيا، حيث تمثل الشريك الأصغر في الائتلاف الحكومي الذي يقوده "المحافظون". وكما أشارت زميلتي "أن أبلباوم" في مقال لها أمس، فإن الكثيرين منا قد اعتقدوا أن أزمة الرأسمالية سوف تساعد أحزاب "اليسار"، خصوصاً في أوروبا، التي شهدت على مدى عقود طويلة، نقداً حاداً للاقتصادات الرأسمالية على النمط الأميركي، والقائمة على مبدأ "دعه يعمل، دعه يمر"، التي ساعدت على بناء وانهيار "بيت الورق" المالي، على إثبات أنها كانت على حق تماماً في ذلك النقد. بيد أن الذي حدث كان على عكس المتوقع، حيث رأينا تلك الأحزاب الاشتراكية وهي تتراجع حتى الآن على الأقل. بمعنى من المعاني، يمكن القول إن مشكلة الأحزاب "اليمينية" و"المحافظة" ترجع في أن الرأسمالية التي عملوا على"أنسنتها" بشكل جيد للغاية على المستوى الوطني لم تعد وطنية. فإنشاء اتحاد أوروبي دون حدود فعلية، واقتصاد عولمي، جعل من مسألة توسع هذه الأحزاب، بل والدفاع عن إنجازاتها، أمراً أكثر صعوبة من ذي قبل. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، حيث وجد عمال المصانع وعمال البناء الأوروبيين، الذين مثلوا قاعدة القوة التاريخية للرأسمالية أنفسهم يدخلون في منافسة مع العمال الأقل أجراً الذين جاءوا إلى بلادهم (أو الذين قامت المصانع الأوروبية بإنشاء فروع لها في بلادهم للاستفادة من رخص أجورهم). علاوة على ذلك، عندما كانت الطبقة المتوسطة تنمو في أوروبا، ونسبة عمال المصانع تتقلص بناء على ذلك، فإن ذلك أدى إلى تغير الأحزاب "اليسارية". في الوقت نفسه سعت الدول التي تبنت طريقاً ثالثاً، مثل حزب "العمال" بقيادة توني بلير، إلى تقليص مستوى الرفاهية الاجتماعي في بلدانها بعض الشيء، فاتحة الطريق بذلك، أمام حدوث شرخ بينها وبين أنصارها الدائمين في اتحادات العمال. وإذا أضفنا إلى ذلك أن العديد من البلدان الأوروبية، المنسجمة عرقياً، قد تحولت في غضون العقود الثلاثة الماضية، إلى موطن لأعداد هائلة من العمال الذين ينحدرون من أصول غير أوروبية، فإن ذلك أدى بدوره إلى نشوء أحزاب متطرفة معادية للمهاجرين، ساهمت هي الأخرى في قضم القاعدة التي كانت قوية فيما مضى للديمقراطية الاشتراكية. وكان لهذه التحولات العميقة أكلاف عالية تكبدتها الديمقراطيات الاشتراكية الأوروبية، من أبرزها فقدان الإحساس السليم بالاتجاه، وبنوعية المهمة، وبـ"الحركة"، حسب مفهوم "برنشتاين". وهكذا، ومن أجل الدفاع عن جزيرة الديمقراطية الاجتماعية في كوكب "دعه يعمل دعه يمر"، وجدت هذه الأحزاب نفسها تتناوب على اعتناق، ومعارضة، سياسة تخفيف القيود التنظيمية على حرية التجارة، التي برزت خلال ربع القرن الأخير، وكانت في الحقيقة تقوم بالسير خطوتين للأمام، ثم خطوتين للخلف متسببة في إحداث بعض الحركة، أو إيهاماً بالحركة. مع ذلك كله يمكن القول إن المشكلة الرئيسية التي واجهتها تلك الأحزاب، هي أن أحزاب "اليمين" - الأوروبية على الأقل - قد دافعت عن دولة الرفاهية في الانتخابات بالدرجة نفسها تقريباً التي دافعت هي عنها. فأبرز حكومتين محافظتين في أوروبا، وهما الحكومة الفرنسية بزعامة "نيكولا ساركوزي"، والحكومة الألمانية بقيادة المستشارة "أنجيلا ميركيل" تتباهيان الآن بالمنافع السخية التي تقدمانها ومنها: تعويضات البطالة، العطلات مدفوعة الأجر للعائلات، ومنظومات الرعاية الصحية، وتؤكدان أن هذه المنافع تفوق مثيلاتها الأميركية، وأنها تمثل حواجز واقية ضد ويلات الكساد. وفي الحقيقة أن "ساركوزي" وفي إطار دفاعه عن تعميم نظام القواعد والضوابط المالية الصارمة عالمياً، ربما يكون قد رسم طريقاً يجب على "اليسار" الأوروبي أن يسير فيه. هذا الطريق يتمثل في توسيع نموذجه الاقتصادي (نموذج اليسار) على المستوى العالمي، بدلاً من مواصلة خوض حرب خاسرة من أجل الدفاع عنه في البلدان المختلفة. وهنا نجد أنفسنا أمام السؤال: هل سيسعى أوباما إلى معارضة المد العولمي من خلال محاولة جعل الرأسمالية الأميركية أكثر ميلاً ناحية الاشتراكية الديمقراطية، في الوقت الذي بدأت فيه الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا تئن من الوهن؟ قليلون من "اليمين" الأوروبي سوف يقولون بذلك. بل إن محافظيهم قد يرون أن اقتصاد أميركا المنفلت من القيود ليس غير إنساني فحسب، وإنما يمثل أيضاً تهديداً للاستقرار الاقتصادي الأوروبي والكوني، وذلك رؤية لا شك أنها تعززت عقب الانهيار الذي حدث في أوروبا العام الماضي. وفي تقديري أن البلد الذي يحتاج إلى "إحساس بالحركة"، حسب مفهوم برنشتاين، وإلى الإصلاح الاجتماعي، أكثر من غيره هو الولايات المتحدة الأميركية. هارولد مايرسون كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"