كلما أطل "التوطين" برأسه في المجتمع، اتجه معظم السهام إلى نوعية مخرجات التعليم والإصرار على عدم تأقلمها مع متطلبات سوق العمل بالدولة، وهذه الإشكالية الحرجة يتم الدوران حولها منذ أكثر من عقد ولم يتم تلافيها إلى هذه الساعة مع توفر أكثر من مؤسسة وطنية قائمة على سد الثغرات بضرورة الوصول إلى الاستفادة الأمثل للعنصر المواطن أولا لندرته وثانياً لقلته العددية في خضم بحر سوق العمل الذي يوفر مئات الألوف من الوظائف للآخرين مقابل الفتات للمواطنين. منذ عقود خلت كانت الشكوى المريرة والتي تصب جام غضبها على المؤسسات التعليمية في المجتمع من التعليم العام إلى المتخصص ووضعت برامج لم تتعد الترقيع بدل الترفيع لعلاج ذات إشكالية المخرجات. وبعد عقود من تغيير قائمة التخصصات المطلوبة في سوق العمل وفقاً لاختلاف الحاجيات الآنية والمستقبلية لدواعي متطلبات عملية التنمية المستدامة، دخلت إلى السوق تخصصات دقيقة وعلى رأسها تكنولوجيا المعلومات واقتصاد المعرفة والتجارة الإلكترونية وغيرها من الفروع التي ابتعدت كثيراً عن التخصصات الأدبية التي كانت ترفض في سوق العمل العام والخاص لمجرد سماع ذكرها وكأن المتخصص في الاجتماع والتاريخ والجغرافيا وغيرها من شاكلتها ارتكب في اختياره ذنباً عليه التكفير عنه اليوم عن طريق القفز عليها إلى عالم الإلكترونيات التي لا تصبر على حال لشهور فضلا عن سنوات معدودات. يرفع أحد المواطنين الباحثين عن عمل سماعة الهاتف إلى أحد برامج البث المباشر قائلا: منذ سنتين وأنا في حال بحث دائم عن وظيفة في تخصص التجارة الإلكترونية فتوصد في وجهي الأبواب، بل ويُزاد عليَّ من الشعر ببيت من اللوم في قول البعض لي: لمَ اخترت هذا التخصص غير المرغوب في السوق؟! لم يعد طالب الوظيفة مدركاً لحقيقة المعادلة أو اللغز الذي يسيِّر سوق العمل، لقد جاء اليوم الذي يعلن فيه رفضه حتى التخصصات التي طالب بها منذ عقود ولفظها اليوم بكل جحود. إن القيادة الرشيدة والحكومة معاً مجمعة على أن التوطين لابد من تفعيله بإيجاد الآليات العملية التي تساهم في غرسه كجزء من الاستراتيجية العامة للدولة على المدى البعيد، فالآنية هنا غير واردة في الخطة، لأن الاستمرارية هي المقصودة، فالمطلوب ليس توظيف مواطن في وظيفة شاغرة، وإنما تمكين المواطن من المساهمة في دفع مسيرة التنمية الشاملة نحو المستقبل، وهذا ما لا يقوم به إلا المواطن المتمكن من أداء دوره الحقيقي لرفع شأن الوطن في كل مجالات العمل بالدولة. وبعد أن أصبحت اللغة الإنجليزية والحاسب الآلي هما الرديفان اللذان يلازمان الطفل المواطن منذ التعليم الأساسي وحتى المراحل الدراسية العليا، إضافة إلى التخصص الدقيق للشهادة المعنية أو شهادات إضافية في "الرخصة الدولية" لقيادة الكومبيوتر و"التوفل" أو "الجودة الشاملة"... إلخ. مع كل هذه التغييرات في المسارات التعليمية نحو الأفضل، نرى أن عملية التوطين غدت أصعب من قبل مع ثبات المتغير الذي يلح في السؤال حتى اللحظة عن أي نوعية مخرجات التعليم نبحث، على رغم أن هذا السؤال ينطبق حتى على الخريجين المواطنين والمبتعثين إلى الخارج، فهؤلاء كذلك لهم في هذا الهم نصيب يحسدون عليه. هناك خلل واضح في مبالغات ومطالبات سوق العمل لفرض شروطه على عملية "التوطين" السيادية، وهو الذي بحاجة إلى دراسة متأنية ووضع آلية واقعية للتعامل مع الضرورة الملحة لزيادة نسب التوطين في المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص في خطين متوازيين غير متصادمين.