الانتخابات اللبنانية حدث ذو مغزى يتعدى هذا البلد، لكن هل من الممكن أن تكتب مقالة مفيدة عن هذا الحدث عندما لا تكون لبنانياً وحتى لم تكن بين الجماهير اللبنانية (داخل لبنان وليس فقط خارج لبنان) حتى تراها وهي تندفع وتتدافع نحو صناديق الاقتراع؟ لنلاحظ أولا أن الانتخابات اللبنانية هذا الأسبوع جزء مما نستطيع أن نسميه موسم الانتخابات في المنطقة. فمثلا منذ أسابيع كانت الانتخابات التشريعية في الكويت، واليوم ستحسم الانتخابات الرئاسية في إيران، وكل من هذه الانتخابات لها مغزاها، فمثلا نجاح أربع سيدات لأول مرة في دخول مجلس الأمة الكويتي يُعتبر حدثاً مهماً في هذا البلد مقارنة بمجلس الأمة السابق الذي سيطرت عليه نظرة إسلامية متزمتة فيما يتعلق بوضعية المرأة في المجتمع الإسلامي. كما أن الانتخابات الرئاسية الإيرانية تشهد حالياً استقطاباً شديداً بين ما يُسمى معسكر المعتدلين أو الإصلاحيين ومعسكر المتشددين أو المحافظين الذي يرمز إليه حالياً الرئيس أحمدي نجاد، وبالتالي تكون نتيجة هذه الانتخابات ذات مغزى، محلياً ودولياً، فيما يتعلق مثلا بعلاقات إيران بجيرانها وكذلك بالولايات المتحدة... فهل للانتخابات اللبنانية مغزى مماثل؟ للوهلة الأولى تبدو الإجابة بالنفي. فقد شهدت عملية الانتخابات نفسها كثيرا من السمات التي أصبحت روتينية في كثير من البلاد العربية، مثل شراء الأصوات، والتدخل بوسائل متعددة للتأثير في إرادة الناخبين. كما أن نتائج التصويت نفسها لم تؤد إلى تغيير يذكر في تركيبة البرلمان اللبناني المأزوم، فجماعة 14 آذار لا تزال لها أغلبية بينما جماعة "حزب الله" و8 آذار لا تزال تتمتع بحق الاعتراض أو الفيتو. كل هذا صحيح حسب الأرقام، لكن الاقتصار على هذه النظرة الآنية الضيقة يسلب الانتخابات اللبنانية ونتائجها مغزاها الأوسع وقدرتها على التحكم في الأزمة. أولا: كان لبنان على مر التاريخ المعاصر للمنطقة العربية مرآة لهذه المنطقة، حتى في أقسى فترات السلطوية للحكم العربي. كانت الصحافة اللبنانية متعددة، متنوعة ومليئة بالحيوية، حتى ولو كان بعضها يُعبر عن آراء ومصالح من يدفع أكثر. كما أن الطوائف اللبنانية المختلفة، عرقية أو دينية، كانت تعكس أيضاً التوجهات السياسية المختلفة في المنطقة. حتى في انتخابات هذا الأسبوع كان هناك اتفاق على أن فوز مجموعة 14 آذار يضمن استمرار الدعم السعودي والمصري في لبنان، بينما فوز مجموعة 8 آذار و"دولة المقاومة" كان سيؤدي إلى توتر كبير مع الولايات المتحدة التي لا تزال تصر على أن "حزب الله" مجموعة إرهابية. ثانياً: الكلام عن المجموعات والملل في لبنان يجرنا إلى الحديث عن مغزى أكبر بالنسبة لهذه الانتخابات، مغزى يتعدى حتى المنطقة العربية لأنه يرتبط بالنظرية الديمقراطية ككل وتطبيقاتها، وقد تكلمت عن هذه النظرية في مقال سابق، لذلك وجب الاختصار. فالنظرية الديمقراطية الكلاسيكية ترتكز على مبدأ الأغلبية البسيطة: من يفوز بـ51 في المئة من الأصوات يفوز بكل شيء بينما يخسر الـ 49 في المئة الباقون. تصلح هذه النظرية الكلاسيكية في المجتمعات المتجانسة، أما في المجتمعات الفسيفسائية أو الطائفية، فإن تطبيق مبدأ الأغلبية المطلقة يؤدي إلى السيطرة الدائمة لعرق أو ملة، وبالتالي تهديد بقاء النظام الذي تلفظه الأقليات المختلفة لحرمانها من مجرد الأمل في التمثيل السياسي. ومن هنا وجب تعديل النظرية الكلاسيكية إلى ما يسمى الديمقراطية التوافقية التي تستبدل مبدأ الأغلبية المطلقة بمبدأ فتح الباب لتمثيل الطوائف المختلفة. وبسبب تزايد عدد الدول الفسيفسائية، أدى هذا التعديل إلى أن تصبح النظرية الديمقراطية عالمية فعلا في تطبيقها، ولكن البداية في وجوب هذا التعديل كان الحالة اللبنانية منذ الاستقلال. ألم أقل إنك لا يجب أن تكون لبنانياً لترى مغزى هذه الانتخابات، إقليمياً ودولياً؟