بعد صعود أسعار النفط في الآونة الأخيرة إلى ما فوق 70 دولار للبرميل، وقبل ذلك ملامستها لسقف 150 دولار، عادت إلى الظهور تلك الأصوات المحذرة من انتهاء حقبة أسعار الطاقة المنخفضة بسبب تراجع إمدادات النفط حول العالم والتنبؤ بمرحلة أطلق عليها البعض "ذروة النفط"، بما تعنيه من بلوغ الإنتاج العالمي من النفط حده الأقصى واحتمالات نضوب السلعة الأكثر أهمية للاقتصاد والمحرك الأساس لعجلة النمو. وليست الأزمة الاقتصادية الحالية التي أثرت على أسعار النفط ودفعتها إلى الانخفاض، بسبب تراجع الطلب العالمي سوى مرحلة مؤقتة حسب تلك الأصوات سرعان ما ستنقضي ليعاود النفط صعوده ولتدخل الحضارة الإنسانية حقبة جديدة ستتغير على ضوئها أنماط الحياة كما عهدناها من قبل. تلك التنبؤات وغيرها هي الفكرة الأساسية للكتاب الذي نعرضه هنا للاقتصادي الكندي "جيف روبين"، بعنوان "لماذا سيصبح العالم صغيراً؟ وماذا يعنيه سعر النفط لنمط حياتنا؟". فحسب الكاتب الذي شغل منصب كبير اقتصاديي أحد البنوك الكبرى في كندا، لن تستمر الأسعار المنخفضة لفترة طويلة، بل "سنشهد ارتفاعاً في أسعار الطاقة يصل بها إلى ثلاثة أرقام بعد انتعاش الاقتصاد"، وأكثر من ذلك، يتوقع المؤلف استقرار الأسعار في مستوى مرتفع لأن الطلب سيفوق العرض خلال الأعوام القادمة. لكن هذه الزيادة المضطردة في أسعار الطاقة التي يحذر منها الكاتب، لن تقتصر تداعياتها على الجانب الاقتصادي فقط، بل ستنتقل إلى مختلف مناحي الحياة، وهنا يضرب مثلا بالتحولات المنتظرة في أنماط حياتنا على شتى المستويات؛ مثل طبق السالمون الذي نأكله في المطاعم، ونحن على جهل تام بكيفية وصوله إلى مائدة المطعم. ففي حال ارتفاع أسعار النفط وبقائها على تلك الحال، سيصبح من الصعب على الأسواق المحلية استيراد السمك من النرويج التي بدورها تستخرجه من البحر وتبعثه إلى المصانع الصينية التي تقوم بتعليبه وإرساله إلى الأسواق العالمية، بحيث تعتمد العملية برمتها على سعر الشحن المنخفض والطاقة الزهيدة التي تشغل المصانع الصينية، فضلا عن اليد العاملة الرخيصة. والأمر نفسه ينطبق على السيارات وباقي السلع المهمة التي يدخل في تصنيعها النفط بشكل كبير؛ سواء في تحديد كلفة النقل بين المصدر والمستورد، أو في إنتاج المواد البلاستيكية وغيرها مما يدخل في الصناعات البتروكيماوية المعتمدة على النفط. بيد أن التغيرات التي سيشهدها العالم بسبب تراجع إنتاج النفط لن تكون كارثية كما يروج لذلك بعد الكتاب الذين يبالغون في التهويل ويخيفون الرأي العام برسم سيناريوهات قاتمة يحذر بعضها من رجوع البشرية إلى العصور الوسطى. فالمؤلف، وعلى مدى صفحات الكتاب، يحافظ على نبرة تفاؤلية؛ لأن الأمر في نظره لن يخلو من أمور إيجابية تجعل الحياة أكثر سهولة ويسراً. ولعل هذا التفاؤل هو ما يفسر لنا عنوان الكتاب، إذ في رأي الكاتب ستنقلب العولمة التي شغلت الناس لفترة طويلة على عقبيها ليصغر العالم وتطفو إلى السطح المحلية بدل العالمية. فمعروف في الاقتصاد أن المسافة تحسب ليس بالأميال، بل بالدولار أي بكمية النفط اللازمة لقطعها، لذا فإن كان العالم مقبلا على مرحلة غير مسبوقة من ارتفاع أسعار النفط فإن تلك المسافات البعيدة التي تقاربت في مرحلة ما بسبب تكلفة النقل المنخفضة سترجع إلى التباعد. وفي هذه الحالة يقول الكاتب ستتضرر الاقتصادات التي تعتمد على التصدير بالنظر إلى تراجع الطلب في الأسواق العالمية وسيتعزز الإقبال بدلا من ذلك على المنتجات المحلية الأقرب إلى المستهلك والأرحم على الجيب. بل يتوقع المؤلف أن تتغير حياتنا اليومية إلى حد كبير، فبعد فترة من توسع الضواحي المحيطة بالمدن، لانخفاض كلفة السكن من جهة وسعر النقل من جهة أخرى، سيصبح من العسير في ظل المرحلة الجديدة البقاء بعيداً عن مقر العمل لارتفاع أسعار الوقود، وستصبح المدن أقل اعتماداً على السيارات، وهو ما سيحسن جودة الحياة. ولن تساهم المصادر الجديدة لإنتاج الطاقة التي يُستثمر فيها اليوم بشكل كثيف، في الانتقال إلى مرحلة ما بعض النفط بسبب التكلفة العالية من جهة والتعقيدات المرتبطة باستخراج النفط من الحقول الجديدة من جهة أخرى؛ مثل الرمال النفطية في كندا التي وإن كانت تتوفر على مخزون هائل من النفط، فإن معالجته وتحويله إلى وقود يستدعي عملية بالغة التعقيد وعالية التكلفة. غير أن الواقع العالمي الجديد الذي يتوقعه الكاتب ينطوي على مكاسب للبشرية أقلها الحد من الاحتباس الحراري الذي رغم الجهود الحثيثة التي تبذلها دول العالم لتقليص خطورته، لم يتمكن المجتمع الدولي من التوافق على صيغة عالمية موحدة لمكافحته، إلا أنه مع ارتفاع أسعار النفط، وتغير الأنماط المعيشية للناس، ثم تراجع الطلب على السيارات والسلع المستوردة والأكثر استهلاكاً للوقود... ستدخل المجتمعات قسراً في مرحلة من تباطؤ النمو الاقتصادي مع ما سينتج عن ذلك من انحسار مستويات التلوث والحد من الارتفاع الحالي لدرجة حرارة الأرض. زهير الكساب الكتاب: لماذا سيصبح العالم صغيراً؟ وماذا يعنيه سعر النفط لنمط حياتنا؟ المؤلف: جيف روبي الناشر: راندوم هاوس تاريخ النشر: 2009