ما كادت أسواق المال الخليجية والعربية تلتقط أنفاسها في الأسبوعين الماضيين، وذلك بعد خسائر جسيمة، حتى برزت للوجود مرة أخرى حملة من الشائعات والتحليلات المتضاربة وبرز من جديد المحللون الماليون الذين تواروا عن الأنظار في الفترة الماضية، وكأنهم كانوا في إجازة إجبارية فرضتها العديد من التطورات المتلاحقة والسريعة. مشكلة أسواق المال الخليجية أنها شديدة التأثر وتعاني من خلل هيكلي وقصور في بنيتها الإدارية والتشريعية، وهذا ما يؤدي إلى تذبذباتها وتقلباتها الحادة. ففي شهر إبريل الماضي ارتفع مؤشر "فايننشال تايمز" في سوق لندن بنسبة 20 في المئة مقارنة بمستواه في شهر مارس، كما ارتفع مؤشر "داوجونز" في نيويورك بنسبة 12 في المئة، في حين لم يتجاوز متوسط ارتفاع مؤشر الأسواق الخليجية خلال نفس الفترة 8 في المئة، كما أشارت إلى ذلك صحيفة مصرف الإمارات الصناعي في عددها الصادر بداية الشهر الجاري. المنطق يفترض أن يحدث العكس، فالاقتصادات الخليجية أقل تأثراً بالأزمة المالية العالمية من الاقتصادين الأميركي والبريطاني، كما أن أداء الشركات المساهمة الخليجية جيد في الربع الأول من العام الجاري إذا ما قيس بحالات الإفلاس والخسائر التي تكبدتها الشركات المساهمة في سوقي لندن ونيويورك. لكن دعونا نرجع للشائعات وتحليلات المحللين الماليين، فبالإضافة إلى الخلل الإداري والتشريعي اللذين أشرنا إليهما، قالت وكالة "رويترر" في تحليلها لارتفاع الأسواق الخليجية إن "هذا الارتفاع مؤقت وسوف تعاني هذه الأسواق من تراجعات حادة نهاية شهر يونيو الجاري"، في حين ذكر العديد من المحللين الماليين أن هذا الارتفاع ما هو إلا بداية لموجة من الارتفاعات التي ستعيد الحياة إلى أسواق المال الخليجية والعربية بشكل عام. ربما يخدم تقرير وكالة "رويترز" توجهات قوى استثمارية معينة، وربما يحاول بعض المحللين خدمة عمليات المضاربات التي تقوم بها شركاتهم، كل ذلك وارد في ظل الخلل الذي تعاني منه هذه الأسواق وغياب التحليلات العلمية التي يفترض أن تقوم بها إدارات الأسواق المالية بصورة يومية وتقدم من خلالها المعلومات الدقيقة عن حركة التداول، وبالتالي حماية المستثمرين من هذه الشائعات والتحليلات الموجهة والتي تلحق أضراراً بالغة بأسواق المال من جهة وبالاقتصادات المحلية من جهة أخرى. لقد أدى هذا الخلل إلى تحول أسواق المال في المنطقة إلى أسواق للمضاربات العنيفة وأضر بسمعة هذه الأسواق وابتعاد الاستثمارات بعيدة المدى، بما فيها الاستثمارات الأجنبية التي تحولت إلى المضاربات الخاطفة في الأسواق الخليجية، وساهمت في مفاقمة معاناة هذه الأسواق التي ما أن تتنفس الصعداء حتى تجد من يخطف منها المكاسب المتواضعة التي حققتها. معالجة هذا الخلل أصبحت مسألة ملحة للمحافظة على المساهمة الإيجابية لأسواق المال في التنمية الاقتصادية لبلدان المنطقة، وذلك باستكمال التشريعات القانونية والتنظيمية التي تضمن حداً أدنى من الشفافية والحد من المضاربات المنفلتة في أسواق صغيرة يمكن التحكم بسهولة في اتجاهاتها من قبل المضاربين، كما بينت تجارب السنوات القليلة الماضية. لتقديم رأي محايد حول التطورات الأخيرة في أسواق المال، يمكن القول إن هذه الأسواق حالها حال الأسواق العالمية، بدأت في التعافي، وحتى لو صدقت تنبؤات تقرير وكالة "رويترز"، فإن عملية التصحيح ستكون مؤقتة وقصيرة، فالاتجاه العام لأسواق المال في المنطقة سيسير نحو الارتفاع، وبالأخص بعد انتهاء فترة الإجازة الصيفية وشهر رمضان المبارك. الأسباب لقول ذلك عديدة ويمكننا ذكر بعضها، فأولا تحقق الشركات المساهمة نتائج جيدة بشكل عام في الوقت الذي يتم تداول أسهم بعضها بأقل من قيمته الاسمية. وثانياً هناك الارتفاع الملحوظ في أسعار النفط والذي سيعزز من الأوضاع الاقتصادية في المنطقة، وثالثاً هناك بوادر تجاوز الاقتصاد العالمي لأسوأ مراحل الأزمة المالية العالمية. هذه وغيرها من العوامل والتطورات الإيجابية تصب لصالح المستثمر الحقيقي والذي يقيم الأمور من منطلق علمي يعتمد على أداء الشركات المساهمة ويقرأ بصورة صحيحة بياناتها المالية بعيداً عن تأثيرات الإعلام غير المتخصص ووكالات الأنباء والمحللين الموسميين. المرحلة المقبلة ستكون دقيقة وستوفر فرصاً مهمة للمستثمرين بالاستفادة من الأسعار التي ما زال البعض منها متدنياً، مقارنة بأداء الشركات وبالتوزيعات المتوقعة في نهاية العام الجاري، لكن الأمر يتطلب أيضاً أن تقوم إدارات الأسواق المالية بدورها في مساعدة مختلف شرائح المستثمرين من خلال تطوير البنية التشريعية والشفافية في أسواق المال، وبالتالي تعزيز دورها التنموي الذي يتناسب والتوجهات الاقتصادية العامة في بلدان المنطقة.