كان خطاب الرئيس أوباما في جامعة القاهرة الخميس الماضي، مثيراً للإلهام وباعثاً على القلق في آن معاً. أكثر ما يثير الإلهام فيه هو رسالته الثرية بشأن العلاقات بين الغرب عموماً والعالم الإسلامي. وفى هذه الرسالة رؤية عميقة تهدف إلى إعلاء القيم المشتركة وتعظيم المصالح المتبادلة. ولذلك فهي تتعدى التوتر الذي تفاقم منذ هجمات سبتمبر 2001، والمشكلات التي تراكمت خلال السنوات الأخيرة. لقد آثر أوباما أن يغوص في أعماق النزاعات بين العالمين الإسلامي والغربي، والتي تعود إلى ما قبل تأسيس الولايات المتحدة الأميركية. لذلك ترك أثراً عميقاً في عقول معظم المسلمين برؤيته هذه، مثلما كسب قلوبهم بشكله الذي يشبه الكثير منهم وحضوره الطاغي ولغته الرائعة وقدرته الخطابية التي يندر مثلها بين زعماء العالم اليوم. وهكذا أكد خطاب أوباما مجدداً أن وجوده على رأس أكبر دولة في الغرب، وفي العالم، يمثل فرصة فريدة لتصحيح العلاقات مع العالم الإسلامي. ويقدم هذا الخطاب إطاراً عاماً ملائماً للشروع في ذلك، وأساساً يمكن البناء عليه. ولأن هذه الفرصة لن تتكرر في زمن قريب، إذا تركناها تفلت من بين أيدينا، فعلينا في العالم الإسلامي ألاَّ نتردد في مصارحته بأن في خطابه الذي يثير الإلهام ما يبعث أيضاً على القلق، وبصفة خاصة في موقفه الفقير تجاه قضية فلسطين. لقد احتلت هذه القضية مساحة تزيد قليلا على ربع خطاب أوباما (نحو 15 دقيقة). وهذا دليل جديد على إدراكه مدى أهميتها. ويصعب، والحال هكذا، فصل اهتمامه بقضية فلسطين عن سعيه إلى فتح صفحة جديدة مع العالم الإسلامي. وإذا صح ذلك، فهو يعنى أن الإخفاق في جهود الحل السلمي للصراع الفلسطيني -الإسرائيلي سيؤثر سلباً على إمكانات النجاح في بناء علاقة جديدة بين أميركا والعالم الإسلامي. ولعل أوباما يعرف أيضاً أن الظلم التاريخي الذي وقع على شعب فلسطين ساهم في تدهور العلاقات بين العالمين الغربي والإسلامي خلال نصف القرن الأخير. فبينما كان الاستعمار التقليدي يقترب من الانحسار، حمل الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين في طياته ما صار أكبر مأساة إنسانية ومظلمة سياسية في عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكان الدور الغربي، بما فيه الأميركي، في تمكين الحركة الصهيونية، موَّلداً لطاقة غضب هائلة في العالم الإسلامي. ومازال هذا الغضب هو المصدر الأول للطاقة التي يتزود بها ما أسماه أوباما في خطابه "التشدد العنيف" متجنباً تعبير "الإرهاب". ولذلك ينبغي مصارحة أوباما بأنه بدون حل منصف لقضية فلسطين، ستكون مهمته في بناء مصالحة مع العالم الإسلامي، بالغة الصعوبة. ومن هنا تجدر مطالبته بمراجعة ما ورد في القسم الخاص بما أسماه (الوضع بين الإسرائيليين والفلسطينيين والعالم العربي)، بدءاً بإعادة النظر في هذه التسمية نفسها. فهذا الوضع هو نتيجة احتلال إسرائيلي لم ترد في الخطاب إشارة واحدة إليه. وقد يقول قائل إن هذه مسألة محض شكلية، وأن المهم هو المضمون. وهذا قول في غير محله ليس فقط لأن هذا خطاب محمَّل بالرموز ذات المغزى العميق والأثر الكبير في بناء السياسات، لكن أيضاً لأن مضمون كلامه يزيد القلق من تجنبه استخدام كلمة الاحتلال. فقد طالب أوباما الفلسطينيين بالتخلي عن العنف والتحلي بالإصرار السلمي على حقوقهم. ولا غضاضة في ذلك من حيث المبدأ، لأن أساليب الشعوب الخاضعة للاحتلال في مكافحته، متغيرة وليست ثابتة. لكن ما يثير القلق في خطاب أوباما أنه عمد إلى إجراء مماثلة بين النضال الفلسطيني وكفاح حركة الحقوق المدنية ضد التمييز العنصري في الولايات المتحدة، رغم أن الاختلاف بينهما تام إلى حد تستحيل معه هذه المماثلة التي تعبر عن موقف فقير تجاه قضية فلسطين. فالفلسطينيون في الضفة والقدس وغزة ليسو مواطنين في الدولة الإسرائيلية يناضلون من أجل المساواة في الحقوق، وإنما هم شعب تحت الاحتلال يكافح من أجل التحرر الوطني والاستقلال وبناء دولة مستقلة. ولا خلاف على أن المقاومة لا يصح أن تهبط إلى مستوى قتل عشوائي. ولا اعتراض على مطالبة الفلسطينيين بوقف المقاومة المسلحة في الفترة المقبلة. وهم أوقفوها تماماً في الضفة الغربية. كما أنهم مستعدون لتهدئه غير قصيرة في قطاع غزة. لا مشكلة في هذا كله. المشكلة الجوهرية هي فيما نفهمه من كلام أوباما بشأن فهمه لطبيعة قضية فلسطين من حيث الأصل. فالمشابهة التي أقامها بين هذه القضية وقضية اضطهاد الأميركيين السمر، من خلال مطالبة الفلسطينيين بأن يسلكوا سلوك حركة الحقوق المدنية الأميركية، لابد أن تبعث على القلق. فإذا أردنا مثيلا لقضية فلسطين في التاريخ الأميركي، يمكن أن نجده في حركة الاستقلال عن الإمبراطورية البريطانية، والتي وَُلدت الولايات المتحدة من رحمها. وقد أشار هو إلى هذه الحركة في موضع آخر من الخطاب، وأسماها باسمها الحقيقي وهو الثورة الأميركية على الإمبراطورية البريطانية. ويعرف الجميع أن هذه الثورة لم تكن سلمية تماماً، وأنها انطوت على عنف وشملت مقاومة مسلحة. ومع ذلك فالمسألة ليست في سلمية المقاومة أو عنفها، وإنما في طبيعة القضية التي تناضل هذه المقاومة في سبيلها. فالقضية الفلسطينية هي قضية تحرر وطني، مثلما كانت ثورة الاستقلال الأميركي. أما حركة الحقوق المدنية الأميركية فهي يمكن أن تكون قدوة لعرب 1948 لأن قضيتهم هي تحقيق المساواة في داخل إسرائيل. وهذه قضية ستزداد أهميتها بشكل نوعي في الفترة القادمة، في ظل تكريس الطابع اليهودي لدولة إسرائيل، وهو ما أغفله أوباما في خطابه. وقد يقول قائل، هنا، إن أوباما يتبنى حل الدولتين، ويسعى بالتالي من أجل إقامة دولة فلسطينية، وأنه لا داعي بالتالي للقلق من مغزى المماثلة التي أجراها مع حركة الحقوق المدنية الأميركية. لكن هذا القول لا يزيل القلق لأن أوباما لم يتحدث أبداً عن خصائص الدولة الثانية في إطار حل الدولتين. فقد تحدث عن دولتين تتجاوران في أمن وسلام، وعن دولة فلسطينية تتوفر لسكانها سبل الحياة وفرص العمل وتطوير المجتمع! وليس هناك ما يضمن أن تكون دولة كهذه كاملة السيادة وحرة في اختيار سياساتها وبناء علاقاتها الإقليمية والدولية. فما يتحدث عنه أوباما هو أقرب إلى دولة لتمكين الفلسطينيين من التمتع بحقوق سياسية داخلية لا تزيد كثيراً عما أتيح لهم في ظل سلطة الحكم الذاتي عبر انتخابات أُجريت وحكومات شُكَّلت، ولكن ليس بحقوق السيادة الوطنية. دولة يكون للفلسطينيين فيها سلطة إزاء الداخل، ولكن ليس تجاه الخارج. وأوباما يعرف ذلك بحكم خلفيته القانونية، لكن موقفه الفقير تجاه قضية فلسطين لا يتسع لأكثر من مطالبة أصحابها بالاقتداء بحركة الحقوق المدنية. لذلك فعندما لم يقدم لهم نموذج ثورة الاستقلال الأميركية، فليس لخطأ في إلمامه بالتاريخ، وإنما لخطأ في فهمه لما يطمح إليه الفلسطينيون. فهم لم يتحملوا كل هذه المعاناة التي تحدث عن بعض مظاهرها، لكي يكون أقصى طموحهم دولة منزوعة السيادة. كما أن المعضلة، إذا بنى أوباما خطته السلمية المتوقع إعلانها قريباً على هذا الأساس، قد تتخطى الفلسطينيين إلى العالم الإسلامي الذي استقبل خطابه بأكبر مقدار من الترحيب والأمل. فالمنهج الذي ينطلق منه حديث أوباما عن قضية فلسطين يفاقم مشكلة القدس التي تناولها في خطابه من خلال عبارة مبهمة هي أن "تصبح وطناً دائماً لليهود والمسيحيين والمسلمين، والمكان الذي يستطيع فيه جميع أبناء إبراهيم أن يعيشوا في سلام". وبمقدار ما يبدو هذا الكلام بالغ العمومية، فهو لا يخفي ميلا إلى استبعاد سيادة فلسطينية على القدس الشرقية أو حتى على الأماكن المقدسة التي لا يمكن للعالم الإسلامي قبول بقائها تحت سيادة صهيونية أياً تكون الصيغة المطروحة في هذا المجال. لهذا كله، تظل قضية فلسطين هي المسألة المحورية في مستقبل العلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي. فالمسلمون الذين أثار أوباما إلهامهم برسالته الثرية عن مستقبل علاقات بلاده معهم، وكسب عقول وقلوب الكثير منهم، ينتظرون موقفاً أكثر ثراءً لحل قضية فلسطين ولسان حالهم يسأل: هل يقتنع هذا الزعيم المختلف حقاً بأنه على أرض فلسطين يمكن بناء المصالحة التاريخية بين الغرب والعالم الإسلامي؟