قبل حوالي 500 عام، مر المجتمع البشري بتحول طريف في بعض أنحاء أوروبا الغربية. فبدلا من الوحدات الإقليمية المصغرة والإقطاعيات والمدن الحرة التي كان يتحكم بها لوردات الحرب والأقليات الأوتوقراطية، نشأت عدة نماذج لدولة الأمة، في كل من فرنسا وإسبانيا وإنجلترا وويلز، زعمت حكومة كل واحدة منها لنفسها سلطات خاصة متفردة، شملت احتكارها لقوات الجيش والشرطة، وحقها في جباية الضرائب، فضلا عن إنشائها للهياكل والبنى الحكومية. إلى ذلك فقد انفردت كل واحدة منها بجمعية تشريعية وطنية ولغة مشتركة وعلم ونشيد وطنيين ونظام بريدي، وغيرها من الرموز الوطنية الدالة على السيادة، التي اتخذت منها كل واحدة من الدول المنضوية للأمم المتحدة البالغ عددها 192 دولة حقوقاً أصيلة لها. حينها كان قد ساد الاعتقاد بميلاد الدولة الوطنية التي غيرت وجه العالم القديم مرة واحدة وإلى الأبد! ولكن لم تكن تلك الدولة لتخلو من الخصوم والمنتقدين، بمن فيهم طائفة من المفكرين الذين تنبأوا بفنائها. فعلى سبيل المثال تنبأ كارل ماركس بأن ميلاد الأممية الشيوعية سوف يؤدي حتماً لاندثار الدولة نفسها. ومثله تطلّع دعاة الفيدرالية العالمية في عقد أربعينيات القرن الماضي إلى تأسيس عدة أشكال للحكم العالمي، بما فيها إنشاء برلمان دولي موحد للأمم. ثم تلا ذلك مؤخراً مجادلة دعاة السوق الرأسمالية الحرة بأن العالم أصبح أشبه بسوق عالمية موحدة، تضاءل تأثير حكومات الدول عليها كثيراً، وأصبحت معها النزاعات والحروب جزءاً من مخلفات الماضي وذكرياته، بما فيها ذكريات الحرب الباردة، التي لن تكون سوى مادة لإشباع الفضول التاريخي، بينما يسود التمويل الدولي باعتباره قوة محركة للسياسات والشؤون الدولية. وبهذه المناسبة فإنه في وسع القراء أن يذكروا كتباً شهيرة روجت لهذه الفكرة مثل كتاب "عالم بلا حدود" لمؤلفه "كنيشي أوهامي" -الصادر في عام 1990- وكذلك مقالات سارت في الاتجاه ذاته كمقال "نهاية التاريخ" الذي صدر عام 1989 لكاتبه فرانسيس فوكوياما. وكان قد ساد الاعتقاد بأنه وفيما لو انتمى العالم الجديد لأي جهة ما، فإنه حتماً ينتمي إلى المدراء الشباب لمصارف "جولدمان ساش"، وأقرانهم من الرأسماليين المغامرين، ودعاة الاقتصاد المتحرر من قيود الدولة وتدخلاتها. وفي نظر دعاة تلك النظرية، فقد أصبحت الدولة أثراً بعد عين، لا سيما إن كانت من طراز الدولة التوسعية "المتكرّشة" ذات النزعة الشمولية الخانقة! ولكن وقع حدثان في بدايات القرن الحادي والعشرين زلزلا هذه الفرضيات، وجعلا من الصعب التمسك بها الآن. أولهما هجمات 11 سبتمبر الإرهابية على الولايات المتحدة. فقد ألحقت تلك الهجمات، التي دبرها ونفذها لاعبون لا دولة لهم ولا حكومة، أضراراً جسيمة بأكبر وأقوى دولة في عالم اليوم، وهو ما اضطرها لتدبير طائفة من الاستجابات المضادة لتنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان"، بل قادت واشنطن حملة واسعة لتعبئة حكومات العالم قاطبة، وحثها على الدفاع عن الأمن والنظام القائمين على محور دولة الأمة. ولم تكن الإجراءات الأمنية التي أعقبت الهجمات، وجمع المعلومات الواسعة عن الأفراد والمواطنين، وتبادل المعلومات الاستخباراتية مع بقية دول العالم، واتخاذ الإجراءات الاحترازية المنسقة ضد الحسابات المصرفية والبضائع المشبوهة، سوى بعض التداعيات والعواقب المترتبة على ما سمي حينها بالحرب على الإرهاب. ومن يشهد تشديد الإجراءات الأمنية والتفتيش الذي يتعرض له المسافرون اليوم في الولايات المتحدة والدول الغربية بنفسه، يدرك جيداً أنه ليس من مجال للحديث عن ذلك "العالم بلا حدود"، الذي طالما تغنّى به دعاة السوق الحرة مقترناً بنعيهم لزوال سلطة الدولة الوطنية. فمثل هذه الإجراءات تبدو أمراً غريباً للغاية قبل 20 عاماً فحسب. أما اليوم فمن الواضح أن كل شيء يتجه نحو تعزيز قبضة "دولة الأمة" كما نرى. أما الحدث الثاني الذي هز فرضيات السوق الحرة الثابتة، فيتمثل في كارثة الأزمة المالية العالمية لعامي 2008-2009. فقد ألقى انهيار القطاع العقاري الأميركي، نتيجة التلاعب والتجاوزات التي حدثت فيه، بتداعياته الكارثية على اقتصادات العالم بأسره، مؤذياً بذلك الأفراد والبنوك والشركات وكافة مجتمعات الأسرة الدولية. هناك الكثير من الملاحظات التي يمكن إبداؤها على هذا الانهيار الدرامي للنظام المالي العالمي بالطبع. غير أن أهمها على الإطلاق، الزراية التي لحقت بمن أطلق عليهم الكاتب الروائي الأميركي "توم ولفي" يوماً تسمية "أساطين العالم"، قاصداً بهم مدراء البنوك التجارية، واستشاريي صناديق المخاطرة المالية، والأنبياء المزيفين المتنبئين بأرباح "داو جونز" المتصاعدة، وغيرهم من صناع قصر الرمال المالي المنهار. وبفعل تلك الكارثة، انهارت شركة "ليمان براذرز" العملاقة، وأصبحت مجرد تاريخ، مع أني كنت بين المشاركين في مؤتمرها الأخير، الذي عقد في روما قبل نحو عام فحسب! وبالنسبة للمواطنين الكثر الذين فقدوا منازلهم أو تسربت مدخراتهم ومستحقاتهم التقاعدية من بين أصابعهم فجأة، فإن الإهانة العامة التي تعرض لها مدراء الشركات التنفيذيون، ورؤساء البنوك وغيرها من المؤسسات المالية خلال العام الماضي، لم تكن سوى مواساة جزئية ضئيلة عن الآلام التي عاناها المواطنون المنكوبون. أما بالنسبة للملايين الذين خسروا وظائفهم أو أحيلوا إلى العمل بنظام الدوام الجزئي بفعل تأثيرات الكساد الاقتصادي العالمي، فلم تكن تلك الإهانة التي لحقت بمدراء البنوك ورؤساء المؤسسات المالية المنهارة، عقوبة كافية لهم في نظرهم. غير أن المسألة التي أرمي إلى تسليط الضوء عليها هنا هي تأكيد نهاية ما يسمى برأسمالية السوق الحرة الخالية من أي قيود أو كوابح، على المستويين المالي والسياسي. وكما نعلم، فإن الدولة وما تمارسه من تأثير وتحكم مباشرين بالعملية الاقتصادية، لم يكونا بعيدين يوم ما في بعض الدول. بل إن هناك من المؤشرات ما يدل على تزايد سلطة الدولة وتدخلها في إدارة الاقتصاد منذ نهايات عقد التسعينيات، خاصة في روسيا والصين وفنزويلا وزامبيا. وعليه فإن التغيير الذي طرأ على ما يسمى برأسمالية السوق الحرة غير المقيدة -لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية- هو الأكبر من نوعه على الإطلاق، جراء الأزمة المالية الراهنة. فمن ينظر اليوم إلى مدراء البنوك وهم يُسلقون سلقاً، ويجلدون بسياط النقد أمام اللجان التابعة للكونجرس الأميركي، ومن يتابع "اختبارات الجهد" المتكررة التي تتعرض لها كبرى الشركات الأميركية من قبل الوكالات والأجهزة الحكومية، ومنْ يراقب المراجعة الدقيقة التي تتعرض لها رواتب وعلاوات مدراء المصارف والشركات المالية -السائبة وغير المنضبطة سابقاً- يدرك جيداً كيف تحوّل عمالقة الأمس "الأحرار" و"أساطين" المؤسسات المالية بالأمس، إلى مجرد أقزام أمام أجهزة الدولة وسلطتها القابضة. وفي كل ذلك ما يذكّر بالطبع بعودة دولة الأمة وحضورها الطاغي على المشهد السياسي الاقتصادي الأميركي اليوم. بل تنطبق الحقيقة نفسها على المشهد العالمي كله. ومن أراد التأكد فليتول الإجابة بنفسه عن السؤال: من هم أباطرة وأساطين عالمنا الحالي: هل هم لوردات الرأسمال الذين تطير بهم طائراتهم الخاصة، وسيارات الليموزين الفارهة التي تنقلهم سنوياً إلى منتدى دافوس الاقتصادي العالمي؟ أم هم مدراء ورؤساء الخزانات العامة والبنوك المركزية لدول القوى الاقتصادية الكبرى؟ وأظن أن الإجابة تبدو في غاية البديهية والوضوح. والحق أن كبرى المؤسسات المالية العالمية ترقص اليوم على إيقاعات أساطين السياسة الجدد، أي على إيقاع الحكومات التي صار لها السهم الأكبر في تلك المؤسسات التي تطلّب إنقاذها من الانهيار والإفلاس، تدخلا كبيراً من قبل الخزانات العامة للدول. صحيح أن مؤسسة مثل "صندوق النقد الدولي" ربما تمنح مئات المليارات الإضافية لتمكينها من مساعدة الاقتصادات المتأثرة سلباً بالأزمة. ولكن السؤال الذي يجب ألا يغيب عن أذهاننا هو: من أين يأتي التفويض بمنح تلك الأموال؟ والإجابة: حتماً من مجموعة من حكومات وخزانات الدول التي استشعرت مسؤوليتها إزاء إنقاذ النظام العالمي من خطر الانهيار. في استعارة مني لعبارة شهيرة وردت على لسان الرئيس الأميركي الأسبق هاري ترومان "هنا يركع الدولار" أي أنه يطأطئ رأسه انحناء وتأدباً عند أعتاب السلطة السياسية التي تظل ممسكة بزمام الأمر المالي. وإنه لمن الحماقة أن يعتقد البعض أن حقائق الحياة القديمة قد اختفت ولم تعد ضرورية، لمجرد أوهام روّج لها أساطين قصر الرمال المالي المنهار! ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيز"