قد يرى الكثيرون أن خطاب أوباما في القاهرة يوم الخميس الماضي لم يحوِ جديداً، فكل ما ورد فيه نطق به في مناسبات سابقة، لكن الجديد أن الخطاب جاء كوثيقة متكاملة يمكن للمرء أن يقرأ من خلالها رؤية أوباما لعلاقة بلاده بالعالم الإسلامي بصفة خاصة. ومن هنا أصبح التوقف عند هذا الخطاب وإمعان النظر في تفاصيله أمراً ضرورياً لكل من يهتم برسم سياسة بلاده تجاه الولايات المتحدة في ظل رئيسها الجديد. ولعل السمة العامة التي ميزت خطاب أوباما في جامعة القاهرة هي سعيه إلى تقديم رؤية متوازنة للقضايا المثارة في علاقة بلاده بالعالم الإسلامي، ولقد كان هذا التوازن واضحاً لدى حديثه عن تصوره لعلاقة الولايات المتحدة بالعالم الإسلامي، ولكن التوازن خانه في مواقع أخرى لعل أبرزها حديثه عن الصراع العربي- الإسرائيلي أو الوضع بين الإسرائيليين والفلسطينيين والعالم العربي كما أسماه هو. وقد قدم أوباما في خطابه تأصيلا ممتازاً للعلاقة الجديدة التي يرجوها مع العالم الإسلامي، واعترف بداية بأخطاء الغرب في حق الإسلام: مرة إبان الحقبة الاستعمارية، ومرة ثانية أثناء الحرب الباردة التي احتدمت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتي اعتبر أوباما أن الغرب نظر أثناءها إلى الدول الإسلامية كدول تابعة، ومن هنا تولدت النزعة العدائية لدى المسلمين تجاه السياسة الأميركية، وهي نزعة اعتبر أوباما أنها وصلت إلى ذروتها بأحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 التي غذت بدورها النزعة العدائية ضد الإسلام في الولايات المتحدة. وعلى رغم أي تحفظ يمكن أن يرد على هذا التحليل إلا أن أوباما يكفيه في تقديري أنه بدأ بالحديث عن مسؤولية الغرب في استعداء المسلمين عليه. ولأن وضعاً كهذا لا يمكن استمراره وفقاً لرؤية أوباما لدور بلاده في العالم فقد اعتمد في خطابه المصالح المتبادلة أساساً لبناء العلاقة الجديدة بين الولايات المتحدة والإسلام، وهو لا يعتبرها أصلا مشتبكة في حرب ضد الإسلام، وفي هذا الصدد قدم رؤية موضوعية لدور الحضارة الإسلامية إبان ازدهارها في نشر المعرفة العلمية في الغرب، وفي تقديري أن هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها سياسي غربي رفيع المستوى بهذه الطريقة، وأضاف أوباما لذلك دور المسلمين في بناء الولايات المتحدة التي أسست على دعائم المساواة وتكافؤ الفرص من وجهة نظره. ومن هنا نشأت الحاجة لديه إلى تصحيح الصور النمطية السلبية المشوهة التي يحملها كل من طرفي العلاقة تجاه الآخر، والحقيقة أن إحدى نقاط "الفاعلية" في خطاب أوباما هي أن كلماته الإيجابية عن الإسلام لاشك أنه سيكون لها بالتأكيد تأثيرها الإيجابي على صورة المسلمين في الولايات المتحدة والغرب. وعندما انتقل أوباما إلى الحديث عن أفغانستان والعراق اختلفت الصورة إلى حد بعيد، فهو مشتبك هنا في حرب حقيقية يسقط فيها يومياً قتلى من أبناء الشعب الأميركي، ولكنه مع ذلك فرق بين حالتي أفغانستان والعراق، فقد اعتبر أنه لم يكن هناك خيار أمام الولايات المتحدة في غزوها لأفغانستان وإسقاط نظام حكم "طالبان" باعتباره المسؤول غير المباشر عن أحداث 11 سبتمبر2001 التي أودت بحياة آلاف الأميركيين، أما العراق فقد ألمح بسرعة إلى أن الخيارات كانت متوفرة فيه، بمعنى أنه كان يمكن إيجاد بديل غير استخدام القوة المسلحة واحتلاله، وإن كان قد حرص على أن يبين أن الشعب العراقي الآن (أي بعد الاحتلال الأميركي) في حال أفضل مما كان عليه في ظل حكم صدام. ونتيجة لهذا التكييف المختلف للحالتين فقد تحدث عن انسحاب وشيك للقوات الأميركية من المدن العراقية في الشهر القادم فيما ذكر أن القوات الأميركية ليست لديها نية بناء قواعد عسكرية في العراق، وأنها ستنسحب من العراق انسحاباً نهائياً في 2012، وأن بلاده لا تطمع في ثروات العراق. أما في حالة أفغانستان فنفهم من الخطاب أن القوات الأميركية لن تغادر أفغانستان إلا بعد هزيمة "المتشددين" (وهو المصطلح الذي فضل استخدامه على مصطلح الإرهابيين) وهي مهمة مستحيلة تكشف عن استمرار الجهل بالأوضاع في أفغانستان. ويعني هذا أن أوباما لا يفكر في إنهاء الالتزام العسكري الأميركي في أفغانستان طالما بقي خطر "التشدد" و"المتشددين"، وهو خطر باقٍ طالما بقيت قوات الاحتلال وفقاً لأبسط تطبيقات القانون التاريخي لحركات التحرر الوطني. ومن هنا أهمية اعتراف أوباما بأن القوة العسكرية وحدها لن تحل المشكلات في أفغانستان أو غيرها، وحديثه عن برنامج المساعدات الاقتصادية والتنموية سواء في أفغانستان أو العراق، وهو نهج سليم مع ملاحظة أن آثاره -إن طبق- لن تبدأ في الظهور قبل مرور عقد من الزمان على الأقل، وهذا يعني أن استخدام سلاح "التنمية" وإن كان أمضى من القوة العسكرية لن يستطيع أن يحل لأوباما مشكلاته في العراق وأفغانستان في المديين القصير والمتوسط، ومن هنا أهمية بلورة رؤية سياسية أميركية جديدة وخلاقة لمعالجة الأوضاع المتردِّية حتى الآن في كل من أفغانستان والعراق. ونأتي بعد ذلك إلى رؤية أوباما للوضع بين الإسرائيليين والفلسطينيين والعالم العربي كما أسماه، لنلاحظ هنا أنه اعترف بمأساة تشريد الشعب الفلسطيني ومعاناته من إهانة الاحتلال ومذلته، وقرر أن استمرار الأزمة الإنسانية في غزة ليس مقبولا، وأكد أن الولايات المتحدة لن تدير ظهرها للفلسطينيين، وأنها تدعم حل الدولتين، وتتمسك بموقفها الرافض لشرعية استمرار المستوطنات، وبالإضافة إلى ذلك اعترف بمشروعية نشأة دولة إسرائيل على خلفية العداء للسامية والمذابح التي تعرض لها اليهود في أوروبا، وأكد على متانة العلاقات الأميركية- الإسرائيلية التي لا يمكن أن تنكسر لأنها ترتكز على علاقات ثقافية وتاريخية، وطالب المقاومة الفلسطينية بالتخلي عن العنف ضد إسرائيل على أساس أن طريقه مسدود، مؤكداً على أن حصول السود في الولايات المتحدة على حقوقهم وتقويض النظام العنصري في جنوب أفريقيا قد قام من خلال نضال مدني، وهو حكم تنقصه الدقة لأن الحرب الأهلية الأميركية كانت في أحد أبعادها جزءاً من مسيرة السود نحو التمتع بحقوقهم الإنسانية، كما أن النضال المسلح عرف طريقه حيناً إلى تجربة شعب جنوب أفريقيا في تصفية النظام العنصري، فضلا عن أن وقف العنف لا يمكن أن يكون دعوة منفردة للمقاومة الفلسطينية وحدها وإنما يجب أن توجه النصيحة ذاتها إلى إسرائيل صاحبة السجل الذي لا يبارى في استخدام العنف الجامح ضد الفلسطينيين، وأخيراً وليس آخراً فقد وصف المبادرة العربية بأنها بداية مهمة ولكنها ليست نهاية مسؤوليات الدول العربية، وهي عبارة تحمل رائحة التطبيع مع إسرائيل السابق على التوصل إلى السلام. ولا يكفي المقام بطبيعة الحال للحديث عن قضايا أخرى وردت في خطاب أوباما، لكن الكثيرين تساءلوا بعد الخطاب عن قدرته على وضعه موضع التطبيق، وهي مسألة قد يُختلف حولها كثيراً خاصة في ظل نفوذ اللوبي الصهيوني في السياسة الأميركية. غير أن سؤال "الفعل" في حقيقة الأمر لا يكفي أن يوجه لأوباما وحده، ذلك أنه يبدو لي أن قطاعات من العرب تنظر إلى أوباما باعتباره "المخلص" المنتظر، وهو مفهوم خطير لا يعكس سوى العجز عن إدراك التردي الذي وصلت إليه الأوضاع العربية ومسؤولية العرب الأولى في مواجهة هذا التردي. ذلك أن استمراره كفيل بأن يجهض أية مصادر للأمل في وثيقة أوباما، ومن هنا فإننا أحوج منه بكثير إلى تبني سياسات "مراجعة" لأوضاعنا لعلها تقيلنا من عثراتنا المتكررة.