منذ سنوات خلت، وبينما كانت الحرب الباردة تقترب من نهايتها، قلت لزملائي من الزعماء والقادة في مختلف أرجاء المعمورة: إن العالم على وشك التعرض لأحداث جسام، وإننا جميعا ـ أنتم ونحن أيضاـ مضطرون للتغيير حتى نتمكن من مواجهة هذه التحديات الجديدة.كانت الاستجابة لهذه الدعوة، في أغلب الأحوال، مزيجا من الصمت المهذب، والمتشكك في آن. في السنوات الأخيرة، عندما كنت أقوم بجولات لإلقاء محاضرات في الولايات المتحدة أمام جمهور من الجامعيين أو جماعات الأعمال، كنت كثيراً ما أقول للحاضرين إنني أشعر أن الأميركيين يحتاجون إلى نسختهم الخاصة من التغيير، أو بمعنى أخر نسخة أميركية تختلف عن النسخة التي طبقتها أنا في بلدي من "البيروسترويكا"( إعادة البناء). وكانت الاستجابة التي أتلقاها في كل مرة أقول فيها ذلك مختلفة جد الاختلاف، حيث كانت القاعات تضج بالتصفيق الحاد. وبمرور الوقت، بدأت ملاحظتي تلك تستدعي تعليقات من كافة الأنواع. فالبعض كان يستجيب لها بنوع من الفهم، والبعض الآخر كان يعارضها قائلا لي بنبرة ساخرة أحيانا إنني أريد للولايات المتحدة أن تمر بحالة من الفوران والفوضى كتلك التي مر بها الاتحاد السوفييتي السابق. أما في بلادي فكانت ردود الأفعال اللاذعة للغاية تأتي من قبل أعداء البيروسترويكا، وهم أناس في أغلبهم من أصحاب الذاكرات الضعيفة، والضمائر القاصرة.وعلى الرغم من أن معظم من ينتقدونني يدركون جيداً بالتأكيد أنني لا أساوي بين الولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي في سنواته الأخيرة، فإنني أود توضيح موقفي مع ذلك منعا لأي التباس. أن دعوتنا إلى البيروسترويكا كانت مؤشراً على الحاجة للتغيير في الاتحاد السوفييتي، ولم تكن تعني بأي حال من الأحوال إعلان الاستسلام أمام النموذج الأميركي. أما اليوم فإن الحاجة إلى بيروسترويكا واسعة النطاق ـ لأميركا والعالم ـ غدت أكثر وضوحا من ذي قبل. لا خلاف على أن الحاجة للتغيير في الاتحاد السوفييتي في منتصف عقد الثمانينيات من القرن الماضي كانت عاجلة: ففي ذلك الحين كانت البلاد مخنوقة بسبب الافتقار للحرية، كما كان الشعب، وخصوصا الطبقة المثقفة منه، يريد تحطيم معقل النظام الذي بناه ستالين، وكان الملايين من الناس آنذاك يقولون:"لم يعد بمقدورنا الاستمرار في الحياة على هذا النحو". لقد بدأنا في ذلك الحين بـ"الجلاسنوست"(المصارحة) عندما سمحنا للناس بالتعبير عن همومهم دون خوف، وفي الحقيقة لم اتفق أبداً مع مواطني"الكسندر سولجنستين" عندما قال ذات مرة:"إن جلاسنوست جورباتشوف قد خربت كل شيء"، ففي رأيي أنه من دون جلاسنوست ما كان لأي تغيير أن يحدث، ولكان سولجنستين نفسه قد أمضى أيامه الأخيرة في المنفى، بدلا من أن يمضيه في وطنه روسيا. في البداية، ظللنا متمسكين بالوهم القائل إن ترميم النظام القائم - إجراء التغيير في إطار النموذج الاشتراكي ذاته - سوف يكون كافياً في حد ذاته، ولكن ما حدث هو أن المقاومة المضادة للتغيير من جانب الحزب الشيوعي، والبيروقراطية كانت أقوى مما كان متصورا. ومع اقتراب عام 1986، من نهايته، أصبح واضحاً لي ولأنصاري، أن ما نحتاجه هو شيء يجب ألا يقل بأي حال من الأحوال عن استبدال الكتل البنائية للنظام القائم برمته. في مواجهة هذه الأوضاع كان خيارنا الذي قررنا القيام به بطريقة ثورية، ودون أراقة قطرة من الدماء هو: الانتخابات، والتعددية السياسية، وحرية الدين، والاقتصاد، والمنافسة، والملكية الخاصة. ولكن ما حدث في الواقع كان مختلفاً عما انتويناه حيث ارتكبنا أخطاء، وتأخرنا كثيراً في اتخاذ قرارات مهمة، وعجزنا في النهاية عن استكمال "البيروسترويكا" التي بدأناها. وهناك مؤامرتان اختطفتا هذا التغيير هما: محاولة الانقلاب التي جرت عام 1991، التي قام بها متشددون معارضون لإصلاحنا، وهو ما أدى في خاتمة المطاف إلى إضعاف وضعي كرئيس، وإلى ما تلا ذلك من اتفاق بين قادة روسيا، وأوكرانيا، وبيلاروسيا، لحل الاتحاد السوفييتي. وفيما بعد رفض القادة الروس الطريق الثوري ودفعوا بذلك البلاد إلى حالة من الفوضى العارمة. مع ذلك، فإنني حين أُسأل، ما إذا كانت "البيروسترويكا" قد نجحت أوهزمت فإنني أرد قائلا: أنها نجحت، والدليل أنها أوصلت البلاد لنقطة يستحيل الرجوع منها إلى الماضي. في الغرب، نُظر إلى تفكك الاتحاد السوفييتي على أنه كان انتصاراً كاملا يثبت في حد ذاته أن الغرب ليس في حاجة إلى التغيير. لقد كان القادة الغربيون مقتنعين أنهم يقودون نظاماً صائباً، يعمل بشكل جيد، ويمثل نموذجاً اقتصادياً كاملا تقريباً، كما رأى المفكرون الغربيون أن التاريخ قد انتهى عند هذا الحد أي بانتصار الرأسمالية وهزيمة الشيوعية، وقام "إجماع واشنطن" بفرض دوجما الأسواق الحرة، وإلغاء الضوابط، والميزانيات المتوازنة، قسرا على بقية العالم. ثم جاءت الأزمة الاقتصادية عامي 2008، و2009 لتوضح لنا بجلاء أن النموذج الغربي ذاته كان مجرد وهم، وأنه كان يفيد الأغنياء بشكل أساسي حيث أثبتت الإحصائيات أن الفقراء، والطبقة المتوسطة لم يحصلوا سوى على منافع قليلة، أولا منافع على الإطلاق، من النمو الاقتصادي الذي تحقق في العقود الماضية. الأزمة العالمية الحالية تثبت أن قادة الدول الكبرى، وخصوصاً الولايات المتحدة، قد عجزوا عن التقاط الإشارات التي كانت تدعوهم لـ"البيروسترويكا"، فكانت النتيجة أزمة ليست مالية واقتصادية، فحسب وإنما سياسية أيضاً. لقد اتضح أن النموذج الذي ظهر خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين غير قابل للاستمرار، لأنه كان مدفوعاً بدوافع الأرباح الضخمة، والاستهلاك الضخم للقلة، القائم على الاستغلال غير المقيد للموارد وعلى اللامسؤولية الاجتماعية والبيئية. لقد حان وقت"البناء الإيجابي"، وتحقيق التوازن الدقيق بين الحكومة، وبين السوق، وإدماج العوامل الاجتماعية والبيئية، وتفكيك عسكرة الاقتصاد. ويتعين على واشنطن أن تلعب دوراً خاصاً في البيروسترويكا الجديدة، ليس لأنها تمتلك قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية هائلة في عالم اليوم فحسب ولكن لسبب آخر في الحقيقة، هو أنها كانت المهندس الرئيسي ـ وكانت نخبتها هي المستفيد الرئيسي أيضاً ـ من النموذج الاقتصادي العالمي الراهن الذي يتهاوى الآن، والذي ينبغي استبداله إن آجلا أو عاجلا، وهو ما سيمثل تحديا مؤلما للجميع بما في ذلك الولايات المتحدة ذاتها. --------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"