لم يحدث أن يقف رئيس أميركي في قلب عاصمة عربية، ليلقي خطاباً بهذه الأهمية والتركيز والشمولية، دون النظر في أي وريقات أو قراءة أوراق، كما فعل الرئيس الأميركي "باراك أوباما" في جامعة القاهرة يوم الخميس الماضي، قبل يوم واحد فقط - لغرائب الصدف - من ذكرى حرب 5 يونيو 1967، التي شكلت بداية القطيعة العربية - الأميركية! تحدث الرئيس الأميركي لجمهور ربما تم اختياره لأسباب معروفة بعناية، ولكن المواضيع التي تطرق إليها شملت أبرز الاهتمامات ونقاط التماس بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي: الإرهاب، القضية الفلسطينية، الملف النووي الإيراني، الديمقراطية، التسامح الديني، حقوق المرأة، وأخيراً التنمية والعولمة وضغوط صراع الحضارات. ولهذا ترددت أصداء الخطاب في كل أركان الدول الـ 57 في العالم الإسلامي، ودخل ضمن الخطب التاريخية التي تحتفظ بها الذاكرة الإنسانية. أشار البعض إلى أن الخطاب كانت له أهمية خاصة بسبب اقتراب موعد الانتخابات اللبنانية والإيرانية والحرب الباكستانية لتقليم أظافر حركة "طالبان"، وهذا صحيح، غير أن القضايا التي أشير إليها في حديث الرئيس كانت أشمل بكثير. خطاب الرئيس أوباما، على روعته، لم يكن "كاملا" بتقييماتنا المختلفة لماهية الكمال، والكيفية التي نفهم بها الخطب وتعقيدات الأمور. خذ مثلا إشارة الأميركيين والدول الغربية إلى أهمية "الحفاظ على المصالح" في العلاقات الدولية وتبادلها وتطويرها. وهو مسعى في نظرهم بالغ الأهمية وعين العقل، بينما تحاط فكرة "الحرص على المصالح" بصفات سلبية في ثقافتنا! ولا شك أن الكثيرين منا يريد من الولايات المتحدة أن تقول كل ما نريد بالطريقة التي نحبها، وألا تلتفت لسوانا في إدارة "مصالحها". ولكن الساسة في معظم الأحيان لا يمكن أن يعطوا إلا الممكن لمن يطلب المستحيل! ولقد خاطب الرئيس الأميركي مشاعرنا الدينية وبعض أهوائنا. ولكن لابد أن نغوص في دلالة كل النقاط المثارة وكيفية التعامل معها على أرض الواقع والارتقاء إلى مستوى الصعوبات المرتبطة بها، وبخاصة أن بينها قضايا كالتسامح الديني والديمقراطية وحقوق المرأة ومكافحة الإرهاب وأزمة الهوية والقضية الفلسطينية. هل يمكن لخطاب "أوباما" أن يحرك في العالمين العربي والإسلامي رؤية جديدة للعرب والمسلمين في المرحلة القادمة؟ هل يمكن لنا أن نتوصل إلى فهم ناضج مشترك للقضايا المثارة والمخاطر التي تهدد مجتمعاتنا ونتباحث في العلاج على صعيد دولي؟ إننا ننتقد اليهود واللوبي الصهيوني مثلا مر الانتقاد، فهل نستطيع أن ننافسهم في ميادين العلم والبحث والعلوم والفنون والثقافة، وميادين البحث العلمي ومراكزه؟ ولقد سمعنا إشادة أوباما بالدور الحضاري للعالم الإسلامي، ونحن نعرف أن بلداننا "كانت" في مصر والعراق وبلاد الشام والهند أقدم مراكز الحضارات، فهل يمكن القفز من ذلك الماضي إلى المستقبل المأمول؟ الإدارة الأميركية الجديدة، بعد تعثر تجربة زرع الديمقراطية، تريد أن تترك العرب والمسلمين للأنظمة والأوضاع التي يفضلونها ويرتاحون إليها. أي ربما إلى ذلك "الخليط السحري" الذي تتحدث عنه دائماً في ندواتنا، "الأصالة والمعاصرة"، و"الخصوصية" و"الاستقلالية الحضارية"... وغير ذلك! ولكن أميركا وكل العالم المتقدم يريدون دولا إسلامية حديثة عصرية، بحجم ما تطرح من شعارات الأصالة والمعاصرة مثلا، كي تتعامل معها، فمتى يتحقق ذلك؟ أخطر ما في خطاب أوباما هو أنه بداية لتجريد الإعلام العربي من مناحات لوم أميركا واعتبار التدخل الأميركي السبب الأول في الواقع المتردي والمستقبل المجهول. كما أن الخطاب فتحٌ كامل لمجالات تفاهم المسيحيين والمسلمين. فنحن لن نرزق على الأرجح برئيس أقدر من أوباما في فهم آمال أهل الديانتين! وفي هذا المجال العملي كله، يقول أحد الكتاب العرب، "المهم أن تكون الرؤية العربية واضحة وقادرة على المساعدة والاشتراك بأفكار عملية في تقديم قوة دفع لتحريك الأمور... هذه ليست المرة الأولى التي تنتعش فيها الآمال في المنطقة وتكتسب العملية السياسية زخماً وقوة دفع، ثم لسبب أو آخر، تجهض وتعود دورة العنف أشد من السابق" وقد لا يكون العالم العربي أو الإسلامي وحده مسرح هذه الانتكاسة.. بل الولايات المتحدة كذلك! ولا أعني بهذا عودة العنف والإرهاب "الإسلامي" إليها، بل الإشارة إلى أن المشاكل والحواجز أمام تحقيق ما ينادي به أوباما موجودة في العالم العربي الإسلامي وفي الولايات المتحدة على حد سواء. فهو يحاول بخطابه هذا أن يدوس على خطوط حمراء وأن يخترق حواجز للمرة الأولى في الولايات المتحدة. وهناك مؤسسات قوية كالكونجرس والحزب "الجمهوري" و"اليمين" الأميركي واللوبي المتعاطف مع إسرائيل وغير ذلك. وهو اليوم في وضع قوي لأنه في بداية استخدام رصيده الرئاسي، ولأن الأزمة الاقتصادية الطاحنة في البلاد تتحكم كثيراً باهتمامات وأولويات الجمهور الأميركي، وقد لا يدوم كل هذا! ولا ندري مثلا هل سيتجدد الارتفاع الهائل في أسعار النفط، أو تنشأ أزمة عالمية في أوروبا أو كوريا أو أميركا الجنوبية، فتغطي على قضايا الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. أو ربما تتعقد القضية الفلسطينية نفسها بين "منظمة التحرير" و"حماس"، ويتسع نطاق الصراع السوري - المصري أو السعودي - الإيراني، أو انقسامات لبنان بين "حزب الله" وخصومه، أو تطور إيران قنبلتها الذرية، أو يقع انقلاب في باكستان.. أو غير ذلك! فالعالم الإسلامي ومنطقة الشرق الأوسط من أعقد مناطق العالم وأحفلها بالمفاجآت والانقسامات والاختلافات الدينية والقومية وغيرها، وما من بقعة منهما تخلو مما يصفه البعض بقنبلة موقوتة أو برميل بارود. والفجوة لا تزال واسعة بين الحجم الجغرافي أو الأهمية الحضارية والتاريخية لمنطقتنا العربية - الإسلامية، وواقعها التنموي والإنتاجي وثقلها في موازين الاقتصاد والرفاه ومستوى الخدمات والبنية التحتية للإنتاج، وكم سيكون المشهد مؤسفاً بعد خمس أو عشر سنوات إنْ تضاعف عدد سكان العالم العربي والإسلامي، وتضاعفت معه حزمة مآسيه ومشاكله.وبخاصة وأن بلدان هذه المجموعة تعاني اليوم، كما نعرف جميعاً من البطالة والفقر والأمية والمرض بمعدلات تفوق أحياناً ما هو سائد في العالم الثالث. وتفجر هذه المشاكل قضايا قومية وطائفية ودينية لا حصر لها، وتزعزع أثبت الكيانات. وكم تخيفني هذه النظرة "الحضارية" التاريخية للكتلة العربية الإسلامية، دون الالتفات إلى ما يمكن تحت السطح وفي الأعماق! ومما يؤسف له كذلك أن الإعلام العربي في دول الخليج ومصر وكل مكان يتحدث عما ينبغي أن تفعله الولايات المتحدة في الفترة القادمة... ولا يتحدث أحد عن التحولات الحتمية في العالمين العربي والإسلامي! ويبدو هذا الإعلام العربي مبتهجاً بهزيمة الحملة الأميركية التي قادها الرئيس الأميركي السابق لنشر الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي. ولكن لا أحد من أبطال وجهابذة هذا الإعلام يقول لنا كيف نخرج من كل ما يحيط بنا من مستنقعات! ولا أحد يناقش الفلسطينيين المنقسمين كيف سيقيمون نظامهم السياسي، أو كيف سيقهر العرب والمسلمون مشاكلهم الاقتصادية، أو كيف ستنال المرأة حقوقها، أو كيف سنحرر التعليم والجامعات أو كيف سنبني الاقتصاد! بل لن نفاجأ على الإطلاق، إن قرأنا لأحدهم اليوم أو بعد أيام أن هذا التحول الأميركي لم يكن سوى بعض ثمار الحادي عشر من سبتمبر 2001. أما قيل لنا، أن اهتمام الأميركيين والغربيين قد تضاعف بالإسلام بعد تلك التفجيرات المروعة، وأنهم دخلوا في الدين أفواجا؟ زيارة الرئيس الأميركي إلى السعودية ومصر، ومن بعدهما رسالته إلى العالم الإسلامي، كما يقول الدكتور عبد المنعم سعيد، ربما تكون هي البداية الحقيقية لإدارة أوباما. "فبدون نجاحه في دبلوماسية الرسائل المتبادلة هذه، فإن تصوراته عن علاقات دولية جديدة بين الشعوب والحضارات سوف تذهب إلى غير رجعة. وساعتها لن نُفاجأ إذا ما عاد المحافظون الجدد مرة أخرى، وتغير البندول الأميركي، حتى قبل أن يستقر!".فماذا نحن فاعلون؟!