هناك من يعتقد أن عمل المراسل الحربي، ونقل أخبار المعارك من الخطوط الأمامية عمل مثير، يسعى بعض المراسلين الحربيين من خلاله إلى تحقيق مجد صحفي. وهؤلاء -أو على الأقل الكثير منهم- سيغيرون رأيهم عندما يقرأون كتاب "بيتر بومون" محرر الشؤون الخارجية في صحيفة "الأوبزرفر" البريطانية: "الحياة السرية للحرب... رحلات عبر الحروب المعاصرة". فهذا الكتاب الذي يبين لنا الجولات التي قام بها مؤلفه في مناطق الحرب في قارات العالم ليس كتاباً عن الحرب في حقيقته وإنما هو كتاب عن الخوف. والخوف بالنسبة لـ"بومون" يعني شيئاً واحداً هو الذهاب للأماكن التي تخيفه، في قلب الحروب لمدة عقدين من الزمن تقريباً، معرضاً نفسه لخطر الإصابة والموت، حتى بعد أن شاهد زملاءه يتساقطون الواحد تلو الآخر. بدأ بومون حياته المهنية كمراسل حربي في منطقة "البلقان" ثم غطى عدداً من الحروب في أفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين، ورأى فيها مشاهد دامية ومآسي مرعبة، منها مشاهد ضحايا الكمائن، وصرعى تبادل إطلاق النار، والتفجيرات الانتحارية. والشيء الذي يميز هذا الكتاب عن غيره من الكتب التي دبجها صحفيون ومراسلون حربيون في مرحلة ما بعد هجمات 11 سبتمبر التي أنتجت جيلا جديداً من المراسلين الصحفيين الذين كانوا ينظرون إلى التغطية الصحفية للحرب على أنها عمل مجيد ونوع من أداء الواجب نحو الوطن. فهو ينقل ما يراه بصرف النظر عما إذا ما كان يقره أو يعارضه، ولا يدعي لنفسه شجاعة، أو جرأة لا يستحقها، فهو يؤكد أن الخوف كان يجتاحه في كثير من المواقف حتى ليكاد يشله عن الحركة. ورغم ما كان ينتابه من خوف، فإنه كان يعود لمواقع المعارك، وساحات الخطر في كل مرة. والمؤلف يتناول في كتابه هذا موضوعاً قلما يتطرق إليه المراسلون الحربيون ألا وهو اضطرابات التوازن التي تلي الخضات النفسية الناتجة عن انفجارات القنابل ومشاهد الفزع والدم والأشلاء، وهي اضطرابات تصيب أول ما تصيب ضحايا تلك الانفجارات من العسكريين أو المدنيين، كما تصيب الصحفيين والمراسلين والمصورين الحربيين الذين يقومون بتغطيتها. والمؤلف يعترف بأنه شخصياً قد تعرض لتلك الاضطرابات وعانى من آثارها، مما اضطره إلى استشارة خبراء نفسيين. ومن خلال تلك الاستشارات عرف أن أعراض الاضطراب يمكن أن تشمل: إدمان المخدرات، وتحطم العلاقات الأسرية، والإفراط في تناول الكحوليات، وفقدان القدرة على الاستمرار في علاقات سليمة مع الآخرين. ورغم ذلك فهو لا يخفي أنه حتى بعد تعرضه للأعراض كان لا يستطيع منع نفسه من العودة إلى مناطق القتال مجدداً إذا ما أحس أن هناك قصصاً تستحق التغطية، رغم أنه زوج سعيد وأب لطفلين رائعين، وهو ما يعبر عنه بقوله: "كنت لا أحس بذاتي إلا عندما أكون في منطقة قتال". و"بومون" يكتب بأسلوب رائع يتسم بالرصانة والنبرة الهادئة، حتى وهو يكتب عن أكثر اللحظات فزعاً ودموية أو أكثرها عاطفية وإثارة للمشاعر، فهو يكتب من القلب، ويُطلع القراء على مشاعر الصداقة المرهفة التي تقوم بين المراسلين في بيئات القتال، والتي ترجع كما يقول إلى ذلك الإحساس الدفين بأنهم سيموتون معاً. ورغم عشقه الشديد لعمله، فـ"بومون" يدرك في قرارة نفسه أنه لابد أن تأتي لحظة من الزمن يجد فيها نفسه مضطراً لوضع هذه المهنة وراء ظهره. وهو يحكي للقراء كيف سمح ذات مرة لمراسل حربي في الستين من عمره بمشاركته الغرفة التي كان يقيم بها في الضفة الغربية عندما كان بمهمة هناك. وكان ذلك الرجل أحد الصحفيين المعروفين والمحترمين، لكن المؤلف يقول إنه شعر بتعاطف كبير مع شخص لا يزال مصراً على مواصلة مهنته رغم تقدم سنه، وأن هذا الشعور جعل فكرة تطرأ على ذهنه فجأة وهو أن ذلك ليس الوضع الذي يحب أن يرى فيه نفسه عندما يصل إلى الستين من عمره. وينهي المؤلف كتابه بالقول إن أحد زملائه جاءه ذات يوم وقال إنه قرر التخلي عن هذه المهنة بعد أن أصبح "يكتب نفس العبارات عن أحداث مشابهة لا تخرج عن الانفجارات، والألغام، وتبادل إطلاق النار والقتل، والاغتصاب، وأنه أدرك أنه ليس هناك جديد يستطيع إضافته لعمله لأن الحرب هي الحرب في كل مكان. ويعلق "بومون" قائلا إنه كان يعرف ذلك، ويدرك الأضرار الجانبية لهذه المهنة الخطرة وما لها من تأثير مدمر على حياته الزوجية، وعلى مستقبل طفليه، لكنه لم يكن يعرف إلى أين يذهب، وماذا يفعل، لكن الشيء الذي كان يُشعره بالسعادة هو كونه لا يزال حياً رغم كل ما صادفه من أهوال، وهو قول يُشعر القراء، بأن كتابه هذا كان -على نحو ما- محاولة للتطهر، وليختط لنفسه طريقاً خارج كل هذا القدر من القتامة والبشاعة التي تمثلها الحرب. سعيد كامل ------- الكتاب: الحياة السرية للحرب... رحلات عبر الحروب المعاصرة المؤلف: بيتر بومون الناشر: هارفيل ساكر تاريخ النشر: 2009